عطاف يتلقى اتصالا هاتفيا من وزير خارجية سلطنة عمان    محمد لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي في كافة وسائل الإعلام    سعيدة: تشجيع ومرافقة أصحاب المستثمرات الفلاحية للانخراط ضمن مسعى تربية المائيات    المغرب: المخزن يستمر في الاعتقالات السياسية في خرق سافر لحقوق الانسان    منتدى الدوحة: إشادة واسعة بجهود الجزائر لنصرة القضية الفلسطينية    إبراز جهود الدولة في تسجيل عناصر ثقافية في قائمة الموروث الثقافي غير المادي باليونسكو    عطاف يدعو لتوجيه الجهود المشتركة نحو نصرة القضية الفلسطينية    قوجيل: مواقف الجزائر تجاه فلسطين "ثابتة" ومقارباتها تجاه قضايا الاستعمار "قطعية وشاملة"    وزير الداخلية يستقبل المدير العام للديوان الوطني للحماية التونسية    بورصة الجزائر: النظام الإلكتروني للتداول دخل مرحلة التجارب    كريكو تؤكد أن المرأة العاملة أثبتت جدارتها في قطاع السكك الحديدية    تيسمسيلت: إلتزام بدعم وتشجيع كل مبادرة شبانية ورياضية تهدف "لتعزيز قيم المواطنة والتضامن"    اتصالات الجزائر تضمن استمرارية خدماتها غدا تزامنا واليوم العالمي للعمال    جيدو/الجائزة الكبرى لدوشانبي: الجزائر تشارك بثلاثة مصارعين    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    حوادث المرور: وفاة 38 شخصا وإصابة 1690 آخرين خلال أسبوع    نجم المانيا السابق ماتيوس يؤكد أن بايرن ميونخ هو الأقرب للصعود إلى نهائي دوري الأبطال على حساب الريال    تندوف: شركات أجنبية تعاين موقع إنجاز محطة إنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية بقدرة 200 ميغاواط    عقب شبهات بعدم احترام الأخلاق الرياضية :غلق ملف مباراة اتحاد الكرمة - مديوني وهران    تاقجوت يدعو إلى تأسيس جبهة عمالية قوية    نظام إلكتروني جديد لتشفير بيانات طلبات الاستيراد    نحو إنشاء بنك إسلامي عمومي في الجزائر    هل تُنصف المحكمة الرياضية ممثل الكرة الجزائرية؟    طاقة ومناجم: عرقاب يستقبل المستشار الدبلوماسي لرئيسة الوزراء الإيطالية المكلف بخطة ماتي    مشعل الشهيد تحيي ذكرى وفاة المجاهد رابح بطاط    رئيس الجمهورية يُبرز الدور الريادي للجزائر    الجزائر معرضة ل18 نوعا من الأخطار الطبيعية    درك بئر مراد رايس يفكّك شبكة إجرامية دولية    ملتقى وطني عن القضية الفلسطينية    أوسرد تحتضن تظاهرات تضامنية مع الشعب الصحراوي بحضور وفود أجنبية    منح 152 رخصة بحث أثري في الجزائر    المغرب: مركز حقوقي يطالب بوقف سياسية "تكميم الأفواه" و قمع الحريات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي/منافسة الأفلام القصيرة: أفكار الأفلام "جميلة وجديدة"    المجلس الأعلى للشباب/ يوم دراسي حول "ثقافة المناصرة" : الخروج بعدة توصيات لمحاربة ظاهرة العنف في الملاعب    حلف دول شمال إفريقيا..العمل يهزم الشعارات    منتجات البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    سياسة الاحتلال الصهيوني الأخطر في تاريخ الحركة الأسيرة    بهدف القيام بحفريات معمقة لاستكشاف التراث الثقافي للجزائر: مولوجي:منحنا 152 رخصة بحث أثري على المستوى الوطني    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    الاحتلال يفشل في تشويه "الأونروا"    "حماس" ترد على مقترح إسرائيل بوقف إطلاق النار 40 يوما    محرز يقود ثورة للإطاحة بمدربه في الأهلي السعودي    اتفاق على ضرورة تغيير طريقة سرد المقاومة    إبراز أهمية إعادة تنظيم المخازن بالمتاحف الوطنية    بلومي يُشعل الصراع بين أندية الدوري البرتغالي    شباب بلوزداد يستنكر أحداث مباراة مولودية وهران    الشرطة تواصل مكافحة الإجرام    لا أملك سرا للإبداع    مصادرة 100 قنطار من أغذية تسمين الدجاج    إخماد حريق شب في منزل    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    استئناف حجز التذاكر للحجاج عبر مطار بأدرار    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعدما فقدت عرفات.... القضية الفلسطينية تفقد محمود درويش
عارض اتفاق أوسلو، تحدى غولدا مائير ب "سجل أنا عربي"


الراحل الكبير.محمود درويش
رحل إذن درويش في الوقت الذي لم يكن احد ينتظر رحيله، رحل مبكرا مباغتا تاركا وراءه "صخب المكان" ورائحة أزهار اللوز و"بيّارِت يافا"، تاركا "الحصان وحيد" وأشجار الزيتون بلا أزهار.
*
من كان يصدق أنه سيرحل في هذا الوقت بالذات، كأنه تعب من الواقع الفلسطيني، من شقاق الإخوة الأعداء، فلم يستطع قلبه الذي أرهقه الترحل الصمود أكثر فاختار أن ينام أخيرا حيث لا أحد يزعجه.
*
اختار أن يرحل في الغربة، وهو الذي قضى حياته بحثا عن وطن، متنقلا بين المدن العربية والغربية التي وشمت شعره وتركت آثارها في قصائده، ففي شعره "ياسمين دمشق" و"بيارت يافا" و"برتقال الجليل" و"مقاهي بيروت" وصخب لندن وباريس تلك الطرقات التي عرفت جيدا خطواته وحفظت عن ظهر قلب أنه كان شاعر المقاومة والقضية والشعب المشرد، الشاعر الذي وقف على جرح الأمة ليعلن أنه لا شاعر بعده سيحمل القضايا فلم يعد للزمن أنبياء.
*
وكأنه كان يعلم جيدا أو يحس بقرب الرحيل فوقّع آخر قصائده في القدس العربي، كانت بمثابة آخر التوقيعات في زمن لم يعد يؤمن بالشعر، رغم أن ما قدمه درويش للقضية الفلسطينية لم يقدمه العرب مجتمعين من المحيط إلى الخليج، كان يعتذر دوما ويعلن مع كل قصيدة أنه ليس شاعر القضية، وأنه ليس أكثر من شاعر حاول أن "يهزم الموت" في "الجدارية"، "هزمتك يا موت الفنون الجميلة جميعها هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد هزمتك.. وأنت انتصرت" هكذا قال يوما درويش الذي هزم بشعره وحده الخنوع العربي من المحيط إلى الخليج، الأكيد أن أصدقاءه ومعارفه وحتى أعداءه سيرْثونه هذا المساء وبعضهم سيقول كلاما جميلا قد لا تسعه حتى اللغة، الأكيد أن كل المدن العربية حزينة هذا المساء لكن لا شيء أكثر حزنا من القضية ومن الجليلي ومن الضفة لأنه لا شيء بعد اليوم سيجعل الفلسطينيين يخجلون من الاقتتال ببعضهم البعض ولأنه حقا لا شيء ولا أحد بعد درويش يحمل القضية، لا أحد بعده يتحدى الإرهاب الإسرائيلي.. تحدى درويش جولدا مائير التي أعلنت موت الهوية الفلسطينية فكتب "سجل أنا عربي" ليقول إن الوجدان الفلسطيني حي رغم انف الإسرائليين.. هو الذي تحدى السجون وعارض اتفاق أسلو والتطبيع واستمر لوحده في المقاومة نيابة عن الضمير العربي والقضية الفلسطينية التي فقدت قبله ياسر عرفات فخلدته الذاكرة الموسيقية العربية من ماجدة الرومي وجوليا بطرس إلى مارسيل خليفة وأصالة نصري، فهل من شاعر بعد درويش يحمل القضية أم أن الواقع اليوم لم يعد "يسجل أننا عرب"؟.
*
*
لم يكن راغبا في العملية قبل أن يقنعه الرئيس عباس..وآخر وصايا درويش: "لا تتركوني حيا بالأجهزة "
*
ذكرت، أمس، صحيفة الشرق الأوسط أن الشاعر الكبير محمود درويش ترك وصية يقول فيها "لا تتركوني حيا بفعل الأجهزة إذا ما حدث لي مكروه"، كانت هذه آخر وصايا درويش الذي سيدفن اليوم الثلاثاء في رام الله وقد نقل الإعلام العربي وجود مساعي فلسطينية لنقل جثمان درويش إلى قريته داخل أراضي 1948، ولكن المؤكد -حسب عدة مواقع عربية- انه سيدفن في رام الله إلى جانب عرفات. وقد ذكر نفس المواقع أن درويش لم يكن راغبا في إجراء العملية قبل أن يقنعه محمود عباس ويدفع له تكاليف العلاج في بوسطن الأمريكية. هذا وقد أعلنت السلطة الفلسطينية الحداد 3 أياما حزنا على فقيد شعر القضية.
*
*
درويش.. سجل أنك نصف العرب
*
أصحيح غيب الموت الشاعر الكبير محمود درويش بعد عملية القلب المفتوح.. الأكيد أنه مازال حيا يرزق لأنه ولد بقلب مفتوح على قضيته الكونية الكبيرة بل أضاف لرصيد القلوب العربية نوعا آخر من إحساس الكينونة... الأطباء قالوا إنه مات جسدا لكني أراه حيا حتى يوم القيامة في دم فلسطين وأحلام الشهداء وعرق الرجال وفي صهيل الخيول العربية...
*
في عام 1948 تاريخ نكبة الاحتلال، دمر الكيان الصهيوني قريته "البروة" التي فتح فيها عينيه على زبانية العالم وهم يعيثون فسادا في الأرض المقدسة، فكان لهول تلك الأحداث المتعاقبة تأثيرا شديدا على مخيلتة العذراء. وفي لبنان التي نزح إليها رفقة أسرته هروبا من القمع زاد إحساسه بالظلم ولم تقر له عين حتى عاد إلى أرض الأنبياء متخفيا وفي قلبه مليون وجه للانتقام، لكنه في النهاية اختار الشعر لأنه الأكبر من كل المدافع والقنابل والبنادق.
*
وفي فلسطين، اعتنق النضال الأبدي وفي يده اليمنى رشاش الشعر وفي اليسرى قنبلة الصحافة وعلى صدره علق قلادة السياسة، وعلى رأسه وضع خوذة القضية. لكن النجمة الوحيدة التي حملته كانت نجمة الشعر الوطني، فكتب قصائد حرك بها أفئدة الناس في شتى أنحاء العالم، وكان كل قصيد جديد يخرج للعلن يتلقفه المترجمون ويمنحونه حياة أخرى بكل لغات العالم تقريبا.
*
عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون، أصدقائي لا تموتوا، عاشق من فلسطين، العصافير تموت في الجليل، مديح الظل العالي، حالة حصار.. وحتى آخر ديوان أصدره سنة 2007 أراد محمود درويش رحمه الله أن يتغلغل شعريا في حالة الضياع التي يعيشها العالم العربي ويحولها إلى إعصار شديد أحدث حالة ترقب دائمة لدى عدوه الأبدي، وأكثر من هذا حاول إزالة الصديد الذي يأكل الشعوب العربية بنهم بتوقيع من الكيان الصهيوني. ورغم محاولات هذا الأخير لإسكاته لم يلف درويش لسانه داخل حلقه بل كان يصنع حالة توتر في منطقة الشرق الأوسط بمجرد إطلاقه أية قصيدة جديدة.
*
درويش بصوته القوي عند إلقاء الشعر وبراعته في مزاوجة اللفظ بالمعنى، استطاع على مدار خمسين عاما أن يلهم جيشا من الشعراء والمثقفين الشباب من المحيط إلى الخليج، فصار مرجعا لهم لاقتناص روح الشعر وتعلم أبجدياته، كما كان خزانا مهما لأعمدة الغناء العربي الأصيل الذين حولوا قصائده إلى ثورات متنقلة تزلزل المسارح والساحات. وحتى الأطفال العرب كان لهم نصيب في إرث درويش لأنهم في مدارسهم يقرؤون قصائده لتنمو أوطانهم في دمهم مع نمو أجسادهم.
*
ونحن نمر بين كلماته غير العابرة لا نجد في رصيده من شعر الغزل إلا ديوانا واحدا لم يقل فيه كلاما رومانسيا كحال كل الشعراء بل اعترف فيه لسيدات فلسطين بدروهن في الثورة ومنح لكل واحدة منهن وسام اعتراف وحب، وخشي أن يتزوج منهن واحدة فتغضب منه الأخرى لأن الوطن لجميعهن وهو وطن كامل... بل أكبر بكثير من نصف العرب.
*
*
في ذكرى سيد الكلام: الراحلون جسدا... الخالدون أبدا..
*
كان السؤال الذي يراودني دائما، هو هل يموت الشعراء مثلما تموت العامة، وكنت دائما أصطدم بإجابتين على الأقل.. الإجابة الأولى التي يحلو لنا أن نواسي بها أنفسنا هي أنهم لا يموتون مثل العوام؛ لأنهم يتنقلون في ضميرنا الجمعي، فهم جزء هام من تشكيله؛ لأننا أمة الشعر والشعراء بلا منازع.. لكن الإجابة الثانية التي تفاجئني كالأرنب البري، هي أن الشعراء في الوطن العربي يموتون كأشد ما تكون الميتة. أولا لأن الشعر عندنا لم يعد يغري شعوبا تلهث وراء الخبز صباح مساء، ولا حكومات ضيعت البوصلة التي كانت تهتدي بها في تحقيق أهداف الأمة العليا..
*
في هذا الواقع العربي المهتز، والممهور بالخيبات المزمنة، لا شك أننا لا نجد ما نقول عندما تطل علينا قامة مثل قامة الشاعر الراحل جسدا، والخالد ذكرا، محمود درويش.. ذلك الشاعر الذي عاش للوطن وللأرض أكثر مما عاش لنفسه..
*
الكثير من الجزائريين لا شك أنهم يذكرون درويش من خلال أمسيته الخالدة التي أحياها سنة 1988 بالجزائر بمناسبة الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، والتي شكلت فيها رائعته "مديح الظل العالي" تأشيرته إلى قلوب كل الجزائريين بلا استثناء.. ويومها صفق السفراء والوزراء والقادة بحرارة للشاعر وهو يضع بصمة ساحرة لذلك الحدث الفلسطيني الذي أعلن من الجزائر، والذي بموجبه صار للفلسطينيين عنوان يسمى دولة فلسطين، بعدما توزعتهم الأمكنة والأزمنة..
*
ومنذ ذلك التاريخ الذي دوت فيه رائعة مديح الظل العالي إلى آخر زيارة قام بها درويش إلى الجزائر، كنت أظن أن جماهيريته تراجعت مع التحولات السياسية التي لم يعد معها للشعر مكانته في المقدمة، لكن الكثير من الجزائريين فوجئوا مثلي وهم يرون الطوابير الطويلة التي توافدت على قاعة ابن خلدون قبل الأمسية الشعرية التي أحياها درويش بساعات طويلة، والكثير منهم عاد خائبا لعدم توفر الأمكنة، إضافة إلى أن دعوات حضور الأمسية التي وزعت، لم يتمكن من الحصول عليها سوى الوزراء والسفراء وأصحاب السلطان.. ويومها تألق درويش كالعادة وسرق العقول لساعات من الزمن..
*
أمس أعلن على الفضائيات أن درويش مات، والحقيقة تقول إنه مات جسدا مثلما تموت العامة، وازداد تألقا وحضورا واحتلالا للأمكنة والأزمنة، وتلك ميزة خاصة الخاصة.. فنم قرير العين يا درويش، فأنت حي فينا؛ لأننا أحياء بك وبشعرك المقاوم..
*
*
من قصيدة:أيها المارون بين الكلمات العابرة
*
أيها المارون بين الكلمات العابرة
*
احملوا أسماءكم، وانصرفوا
*
واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
*
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
*
إنكم لن تعرفوا
*
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
*
***
*
أيها المارون بين الكلمات العابرة
*
منكم السيف ومنا دمنا
*
منكم الفولاذ والنار ومنا لحمنا
*
منكم دبابة أخرى ومنا حجر
*
منكم قنبلة الغاز ومنا المطر
*
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
*
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
*
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
*
وعلينا ، نحن، أن نحرس ورد الشهداء
*
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء
*
*
درويش في الجزائر... الشاعر الذي أغلق شوارع العاصمة
*
علاقة درويش بالجزائر تكتسي صبغة تاريخية، ذلك أنه كان كاتب ميثاق إعلان دولة فلسطين بالجزائر عام 1988، ليحفر بذلك اسمه في سجل المارين من هذه الأرض. كانت آخر زيارة لدرويش إلى الجزائر في عام 2005، حيث نظم الشاعر أمسية في قاعة ابن خلدون ألقى فيها أجمل قصائده من "مدح الظل العالي"، إلى سجل "أنا عربي"، وهنا قرأ درويش قصيدة للجزائر "على هذه أرض مات يستحق الحياة"، ما زلنا نذكر تفاصيل الأمسية كأنها كانت بالأمس فقط، ليلتها بكت الجالية الفلسطينية بالجزائر في حضرة شاعرها، ليلتها أغلق درويش شوارع العاصمة، وامتلأت القاعة عن آخرها، ليلتها أثبت درويش أن الشعر أيضا له جمهور عندما يلتحم بقضايا الناس البسطاء وهمومهم. كانت أمسية مشهودة أغلقت الشوارع المؤدية والمحاذية للشارع الرئيسي لساحة أودان والعربي بن مهيدي، ليلتها خرج درويش من زحام الجمهور والمعجبين وهو يشق طريقه تحت طوق أمني مشدد، ليلتها ردد الجمهور قصائده، كانوا يرددون أغاني المطريين، وهتف الجميع لحد الدموع، ليلتها عزف الشاعر على وتر الجمهور الذي عاش ليلة ستبقى في السجل الذهبي لأجمل الفرص التي أتيحت لهذا البلد، ليلتها وقفنا جميعا في حضرة درويش أطفالا مشتاقين للصدق في القول والحديث الذي ينبع من القلب، ليلتها قلنا متى يعود درويش إلى الجزائر؟ وبقي السؤال معلقا إلى الأبد.
*
*
درويش شاعر المرأة أيضا: قراءة في ديوان "سرير الغريبة"
*
رغم أن المعروف عن درويش أنه شاعر القضية بامتياز، الشاعر الذي وهب حياته لشعبية، لكنه أيضا شاعر الحب والمرأة، حيث أعلن درويش عن هذا الاتجاه في ديوانه الذي صدر عام 1999) "سرير الغريبة"، حيث يقدم واقعا آخر واتجاها لم يألفه الجمهور عنه. في هذا الديوان يعلن درويش عن قضيته الأخرى التي تجاهلها طوال بحثه عن وطن. فإذا بها هي الوطن "خارج الحدود والأسلاك الشائكة، خارج المؤتمرات وحرب الفصائل، يتذكر في غفلة أنه بحاجة إلى أنثى فيسألها "أي الأغاني تحبين
*
أي الأغاني
*
أتلك التي تتحدث عن عطش الحب
*
أم عن زمان مضى".
*
في هذا الديوان يجمع النقاد أن درويش دخل نوعا من الشعر لم يكن معروفا إلا عند نزار قباني، فأضاف بذلك درويش بصمة أخرى إلى شعره.
*
"كل مساء أراقب هذا السرير ..
*
سرير الغريبة ..
*
أشعل رغبة الضوء في تقبيل جسد الشمعة ..
*
أعلم أنني ارتكبت الخطيئة ..
*
فاغفروا لقلبي.." هكذا قال يوما معتذرا لقضيته؛ لأنه ربما تذكر في غفلة من النضال أنه شاعر ويحق له الحلم، فلقبه اليوم ما يكفي من العمر والمغفرة والرحمة أيضا.
*
*
قالوا في محمود درويش
*
*
أنعام بيوض... شاعر سيخلده موته
*
الكلام عن الشاعر لا ينتهي.. هو شاعر ينضح بالمودة والحب، وموته سيخلده أكثر كما لو كان حيا. كانت كلمته أقوى من الرشاش، خلد نضال الشعب الفلسطيني والأمة العربية. درويش أصبح نجما ككل النجوم التي تخلد بعد موتها.. سأعمل على كتابة مقالات ودراسات عن الشاعر، ولابد أن يكون لي نصيب في الكتابة عن حياته ومغامرته مع القصيدة، وكنت أتسلى كثيرا بنقد القصائد التي ترجمت عن درويش وفي نفس الوقت كنت أستغرب للترجمة الخاطئة في أكثر من قصيدة له.
*
*
عبد العالي رزاقي: "..كره أمريكا فمات فيها"
*
محمود درويش شاعر متميز له ثلاث مراحل في حياته الاساسية، مرحلة قصيدة "سجل أنا عربي" عندما كان بفلسطين، ومرحلة بعد خروجه من فلسطين إلى الجزائر أين بدأ بتجربة القصيدة الجديدة التي أثرت على جيل السبعينات، واشتهر بكتابته لبيان قيام الدولة الفلسذطينية في الجزائر عام 1988، انجز اعمالا كثيرة خلال هذه المرحلة وساهم في بناء الأنشودة السياسية عبر تحويل قصائده إلى أغان من قبل "مرسيل خليفة". كان غير مرغوب به في أمريكا؛ لأنه رفض أن يكون لعبة في أيدي اللوبي الصهيوني، لكن مع الأسف الشديد مات هناك. يقال بعد رحيل ياسر عرفات رحل محمود درويش خاصة لما كتب "مديح الظل العالي"، فسألوه عن الظل، فقال هو ياسر عرفات، فموت عرفات أثر فيه كثيرا.
*
*
الطاهر وطار: "..رحل قبل أن يتشبث به صئبان الأدب"
*
ليس هناك ما يضاف عليه، فهو شاعر العصر من دون منازع وهو مجدد وملتزم بأصول الشعر العربي وملتزم بقضية سياسية ونضالية .. وهو صديق لي التقينا في أكثر من مكان بالعالم مع سميح القاسم وشكلنا ثلاثيا مناضلا، أحبه الله أن يغادر الحياة في مثل هذه الظروف غير المنطقية و غير العقلانية التي تحدث في غزة ورام الله ومراوحة بين سلطة محتلة خبيثة ولئيمة والتي لا يمكن أن يسكت عنها، لقد قال ما عنده وأثره باق، أدى مدى حياته الطويل واجبه الحقيقي، فموته ربح وليس بخسارة. حتى لا نخسر شاعرا بأمر ربما يفرض عليه من عصابات رام الله؛ لأننا نعلم أن الشاعر كان قد هدد من قبل من طرف هذه العصابة في آخر مهرجان أقامه في الأرض المحتلة "رام الله"، حيث قال كلاما أثار أسئلة الفضوليين صئبان الأدب والثقافة الذين ينتظرون فقط الفرصة لركوب الشاعر، لكنه لم يتح لهم الفرصة للتشبث به وغادر الحياة متألما.
*
*
أحب قسنطينة وتأسف لتأخر الزيارة
*
حط الشاعر محمود درويش بقسنطينة لأول ولآخر مرة في عام 1987، بدعوة من الفرع الجهوي لاتحاد الكتاب والصحفيين الجزائريين الذي كان يرأسه الشاعر محمد زيتلي، وفي أمسية شعر أقيمت بالمسرح الجهوي وحضرها جمهور حماسي منقطع النظير، قدم الأمسية الشاعر محمد زيتلي في كلمة عتاب قال فيها أن الشاعر محمود درويش تلقى عدة دعوات لزيارة قسنطينة، آخرها إلى هذا الموعد، ورفع الراحل يده واعترف وطلب العذر، خاصة أنه عندما امتطى سيارة مازدا 929 التابعة لمحافظة حزب جبهة التحرير التي نقلته مابين المطار ومقر الولاية والمسرح الجهوي، أبهرته المدينة بجمالها، وقال إنه أحبها لأنها ذكرته بتضاريسها الخاصة بفلسطين.. أمسيته الشعرية بدأت في الخامسة مساء ولم تنته لحد الآن منذ ذاكرة محبي شعره.. وكان الشاعر محمد زيتلي عام 1983 قد حضر لقاء حضره أحمد عبد الرحمان ومحمود درويش لأجل رأب الصدع الذي نخر جسم الشعر الفلسطيني، فتمكنت الجزائر في مؤتمر وحدة من الجمع بين الفرقاء الفلسطينيين بحضور الراحل ياسر عرفات، وكان آخر لقاء للشاعر محمد زيتلي بالراحل خلال حفل عشاء أقامته الوزيرة خليدة تومي على شرف محمود درويش بالساحل العاصمي.. للأسف لم يكن درويش وحده الذي زار قسنطينة في ذلك العهد، بل زارها أيضا نزار قباني وسهيل إدريس وأدونيس ومظفر النواب وذكروها جميعا بخير، لينتهي الحلم الآن نهائيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.