لا تزال الأمّة الإسلاميّة تعيش أجواء الاستعداد والتأهّب لموسم جديد من مواسم الحجّ، ولا تزال وفود الحجيج تتدفّق من كلّ فجّ عميق على أرض هي أحبّ أرض إلى الله ربّ العالمين، وإلى أنبيائه ورسله وعباده الصّالحين، وهاهم آباؤنا وإخواننا وأمّهاتنا وأخواتنا حجيج بيت الله الحرام ينطلقون في أعظم وأمتع وأنفع رحلة في هذه الحياة، رحلة يخرج بها العبد المؤمن من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وترفع درجته بين أهل الأرض وأهل السّماء. رحلة ينزل فيها الحاجّ ضيفا على أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين، ويحثّ خطاه على أرض حُثّت عليها أشرف الخطى، خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم، أرض تحمل بين طياتها أجسادَ رجال سطّروا بدمائهم وأنفسهم وأموالهم أنصع تاريخ لأمّة الإسلام، وتحمل على ظهرها أعظم ذكريات لهذا الدين.. أرض تحمل على ظهرها طيبة المشرّفة مدينة النبيّ المجتبى عليه الصّلاة والسّلام. هنا كان يصلّي صلواتُ ربّي وسلامه عليه، وهنا كانت حجرات زوجاته. هذا قبره، وهنا منبره الذي كان يخطب عليه. لطالما جلس- عليه الصّلاة والسّلام- في هذا المكان، وجلس حوله أبو بكر وعمر وعلي وعثمان، وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزبير بن العوام. هنا كانت غزوة بدر وهنالك كانت غزوة أحد.. وهذه مكّة المكرّمة التي سارت على ثراها أقدام جميع الأنبياء عليهم السّلام، هنا كانت قصّة خليل الله إبراهيم، وهنا كان مبدأ الرّسالة الخاتمة. هنا أوذي نبيّ الهدى- صلى الله عليه وآله وسلّم- ووضع سلا الجزور على ظهره وهو ساجد لربّه. هذه الصّفا وتلك المروة وذاك ماء زمزمَ الطّاهر. ذاك غار حراء وذاك جبل عرفات. مقامات أعظِم بها من مقامات، وذكريات يا لها من ذكريات... فهنيئا لتلك الجموع التي أكرمها الحنّان المنّان بالوفود عليه في بيته الذي لا يردّ فيه دعاء داع ولا يخيّب أمل مؤمّل.. إنّه الرّحمن الرّحيم الحنّان المنّان، ومن رحمته أنّه اختصّ عباده المؤمنين بمواسم لمضاعفة الأجور ومحو السيّئات، تهبّ فيها النّسمات وتتنزّل فيها الرّحمات وتغفر الخطيئات وتقال العثرات، يقول نبيّ الهدى- صلى الله عليه وآله وسلّم-: "افعلوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمّن روعاتكم".. نفحات تهبّ في أيام ومناسبات شرّفها الله، لعلّ من أعظمها تلك التي تهبّ في العشر الأول من شهر ذي الحجّة، هذه العشر التي ستحلّ بنا بعد غد بحول الله.. أيام ليست ككلّ الأيام، بل هي أفضل الأيام عند الله جلّ وعلا، يقول المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر يعني عشر ذي الحجّة".. أيام جعلها الله أيام ذكر وطاعة فقال (تقدّست أسماؤه): ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير)) (الحجّ، 28). والأيام المعلومات في هذه الآيات هي أيام العشر الأول من شهر ذي الحجّة.. أيام يجتمع فيها من العبادات ما لا يجتمع في غيرها؛ تجتمع فيها الصلاة والصيام والصدقة والحج والتّهليل والتّحميد والتّكبير وذبح النّسك. أيام يتوب الله- جلّ وعلا- فيها على من تعرّض لنفحاته، ويضاعف له أجور الصّالحات، يقول الحبيب المجتبى عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم: "ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ يعني أيامَ العشر". قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجعْ من ذلك بشيء". أيام حقّق بعض العلماء أنّها أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان.. بمعنى أنّ في إمكان العبد المؤمن أن يعيش نفحات رمضان في هذه الأيام، فيقضيها بين صيام وقيام، وذكر وقرآن، وصدقة ودعاء. بل لربّما تكون هذه الأيام بداية حياة جديدة يعيشها العبد المؤمن، يطلّق فيها الغفلة ويقبل على ربّه الغفور الرّحيم الحنّان المنّان.. هي فرصة لكلّ متحسّر على فوات فرصة رمضان. هي فرصة لكلّ عبد يريد أن يتوب إلى الله الواحد الديّان، ويبدأ صفحة جديدة في حياته. إنّ الحرمان منتهى الحرمان أن يضيّع العبد المؤمن أمثال هذه الأيام، وترحل يوم ترحل وحاله هي حاله، وقلبه هو قلبه. نفحة من النّفحات ستغشانا في الأيام القادمة بإذن الله؛ فيا ترى من منّا سيتعرّض لها؟ هي فرصة مَن أحسن استغلالها سيكسب بإذن الله خيرا كثيرا.. لربّما ينظر الله- تبارك وتعالى- نظرة رحمة إلى أحدنا وهو يجتهد في القرب منه في هذه الأيام ويرى منه الصّدق والحرص على رضاه، فيكتب له رضوانه ويتقبّله في الصّالحين ويفكّ أسر قلبه من سجن الدّنيا. إنّ أيّام العشر من ذي الحجّة أيّام صلوات ودعوات. أيّام صيام وتسبيح وتهليل وتكبير ومشاركة للحجّاج في دعائهم وابتهالهم. فاحرص– أخي المؤمن- على الإكثار من الطّاعات والقربات عسى الله أن يتقبل منك ويغفر ذنوبك. إذا كان الفرح في عيد الفطر ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لصيام شهر رمضان وقيام لياليه، فإنّ الفرح في عيد الأضحى أيضا ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لفعل الطّاعات والقربات في أيام العشر من ذي الحجّة، فبماذا سيفرح من غفل عن هذه الأيام؟ بماذا سيفرح من غفل فيها عن الصّدقة والصّيام والقيام، وتزوّد فيها من الأوزار والآثام؟ إذا كانت أجور الأعمال الصّالحة في مثل هذه الأيام الفاضلة تضاعف، فإنّ أوزار المعاصي أيضا تضاعف: يقول ابن عباس رضي الله عنه: "اختصّ الله أربعة أشهر جعلهنّ حرماً، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم".