قصة قصيدة 19 إن فكرة الالتزام التي أشرت إليها في المقالة السابقة قد طرحت مباشرة في مرحلة ما بعد الاستعمار، في معظم بلداننا، بقوة وخاصة في الفترات المدعوة بالستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. ولقد كان لكتاب جان بول سارتر "ما هو الأدب" ولفلسفته الوجودية بشكل عام تأثير كبير بهذا الخصوص. وإلى جانب هذه الفكرة فقد طرحت في المشهد الأدبي من المحيط إلى الخليج أيضا فكرة الواقعية وتفرعت عنها عدة تفريعات منها الواقعية السحرية، والواقعية الاشتراكية، والواقعية النقدية، والواقعية الجديدة وهلم جرا. كما عجت الكتابات التي كانت تصلنا من المشرق العربي بمصطلحات أخرى مثل أدب الطبقة العاملة، والأدب المسؤول، والأدب الثوري، وأدب المقاومة، والأدب القومي، والأدب الوطني، والأدب للحياة وغيرها كثير. * وهكذا بدأنا نرى في الساحة الأدبية الجزائرية من يدّعي أنه واقعي اشتراكي أو من يصنّف نفسه كواقعي سحري ولكن كل هؤلاء لم يكن لهم تكوين نقدي مؤسس على دعائم الفكر والفلسفة وجراء ذلك فقد بقيت الادعاءات والتصنيفات المذكورة مجرد موضة، وانتماء سطحيا أقرب إلى التفكير الرغبي. وفضلا عن ذلك، فإن انعدام نقاد مفكرين في الجزائر قد لعب دورا مفصليا في ترسيخ هذه الوضعية. في هذا المناخ بدأت أطرح على نفسي أسئلة من هذا النوع: ما هو الواقع؟ وهل ثمة علاقة جاهزة بين اللغة وبين ما يدعى بالواقع؟ وهل يمكن لبنية اللغة أن تكون مقياسا لهندسة بنية الواقع على حد تعبير مارتن هيدغر؟ وهل الكون مستقل عن معرفتنا؟ ثم كيف يتعامل المبدع مع ما يدعى بالواقع؟ إن هذه الأسئلة معقدة وكبيرة جدا ومن الصعب إيجاد الإجابة القاطعة لها. * إن الإجابة تتطلب قراءة داخلية شاملة وعميقة للإنتاج الإبداعي الخاص بمرحلة تاريخية متميزة على ضوء تحليل العناصر المكونة لتلك المرحلة بكل أبنيتها ومعطياتها المادية والرمزية من أجل معرفة كيف قدم ذلك الواقع التاريخي أو الذاتي فنيا وكيف أصبح نصا إبداعيا متميزا عن الواقع نفسه، أي قيمة مضافة؟ لابد من الاتفاق مبدئيا أن الإبداع ليس صورة طبق الأصل لتفاصيل الحياة كما هي، وليس تصويرا ميكانيكيا للوقائع اليومية، كما أنه ليس شيئا خارج الحياة اليومية وتعرجاتها. إن العمل الإبداعي هو الذي يخلق الواقع وبالتالي فهو بالضرورة تعبير فني خلاق عن الحياة وتأويل فني لها من أجل إعادة خلقها، وهو صياغة راقية للعمل البشري الذي يمارس من أجل تقدم الإنسان وتطوره. فالعمل الفني والأدبي يضيف للطبيعة بواسطة إعادة تركيبها لتصبح فضاء روحيا، كما أن التعبير عن الحياة ليس معناه سرد حيثياتها، بل هو الإفصاح بجمالية عالية عن جوهر الحياة البشرية ببؤسها وفرحها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، بميلاد الناس وموتهم فيها. إن التعبير والإفصاح عن العناصر المضيئة فيها من ثورة على الظلم والقهر السياسي والاجتماعي سعيا لتكريس المثل العليا من حب، وصداقة، وعدالة، وجمال، وحرية وسلام تدخل ضمن دور الأدباء الذين يناصرون التقدم والحياة. * إن الواقع مصطلح غامض جدا رغم وضوحه الظاهري. إن الفهم والتأويل له كوقائع يعد من الظواهر السلبية في حركة نقدنا الحديث. فالكتابات التي تحدثت عن الواقع كوقائع فهي إما ميكانيكية تنظر إليه على أساس أنه سلسلة من المظاهر الخارجية للحياة اليومية لفرد أو جماعة أو لشعب ما في مرحلة تاريخية ما، وإما هي طوباوية تنظر إلى الواقع على أنه هو الواقع الذاتي المغلق وكل ما عدا ذلك في رأيها لا يمكن أن يصبح منبعا للأدب. إن إهمال الفريق الأول للبعد الذاتي، وإهمال الفريق الثاني للبعد الجماعي، جعل من تصور الأول تصورا وقائعيا، ومن تصور الثاني تصورا يستبعد دور الذات في صنع التاريخ. * في هذا السياق، أستبعد التحدث عن الواقعية السحرية والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية وغيرها من الواقعيات التي يحفل بها النقد الحديث. إن معالجة هذه الأنماط تتطلب بالضرورة دراسة الخلفية التاريخية التي أدت إلى بروزها ودراسة النماذج الأكثر تعبيرا عنها وتمثيلا لها للتمكن من الوصول إلى تحليل بنية كل وقائعية أو واقعية على حدة في سياقها وفرادتها التاريخيين. * ينبغي على المناقشة أن تنطلق من توضيح مفهوم الواقع ثم ننتقل إلى سبر الأعمال الإبداعية ودراسة تجليات ما يدعى بالواقع في تضاريسها. إن الواقع بالنسبة للأديب ليس مجرد ظواهر عامة وسطوحها الخارجية. إن الواقع ليس هو الحاضر المعيشي بكل معطياته، أو الماضي بكل تشابكاته، أو المستقبل بكل غموضه وسحره فقط. إن الواقع بالنسبة للأديب المبدع هو الحياة. إن الواقع الذي تبرزه قصة قصيرة ما، أو رواية ما ليس بالضرورة وقائع حرفية. * إن الأدب تخييل، ولذلك نجد بعض الأعمال الإبداعية الخلاقة ترتفع بالواقع الذي كان مادة أولية لها إلى مصاف الأسطورة والخيال، ونجد أعمالا إبداعية أخرى تحول الأسطورة والخيال إلى كون سحري يدرك بالاعتقاد وليس باليقين. * إن العمل الإبداعي ليس وقائعيا ولا يعكس بالضرورة التفاصيل الخارجية ميكانيكيا. العمل الإبداعي هو فعل الاختراق للواقع، وتجاوز له. قد يكون الإبداع حلما واتكاء على عالم أسطوري بحت. من هنا نفهم أهمية الأعمال الإبداعية في حقل الأدب والفن التي كانت مزيجا من عالم في حالة التلاشي والانهيار، ومن عالم في حالة البناء والارتفاع. * في الحقيقة لم أرد أن أدخل في مناقشة الطرح القديم الذي يرى أن الأعمال الفنية برمتها هي محاكاة للمثل لأن هذه المقولة قد أشبعت درسا وتفصيلا على يد مؤرخي الفلسفة، وعلماء الجمال. * هناك وجهة نظر تؤكد إبداعية الأدب وفاعليته في التاريخ، أي في تحويله، تكمنان في نقد المجتمعات وفي تعبيره بقوة الفن عن التناقضات الجوهرية التي تعتمل في بنيتها الداخلية وقوانينها العامة. إن الكتابة من داخل الواقع المعيش لا تعني الالتزام الصارم بحرفية ما يجري فيه، لأن الأديب مثلما قال الشاعر الأمريكي أرشبيلد ماكليش "هو مثل الصياد الماهر في المحيط الهادي"، إذ لا يمكن لشبكته أن تغطي المحيط بكامله، بل عليه أن يبحث عن المنطقة الجوهرية الأكثر تركيزا، وإضاءة، في التجربة الإنسانية. * إن إبداعية الأدب ليست مصالحة تلفيقية بين الذاتي والموضوعي، أي بين عالم الأديب الداخلي، والعالم الخارجي، وليس تركيبا شكليا بين النسبي والمطلق. الإبداع هو التعبير الجمالي المتطور عن حوار الذات، الأكثر وعيا للتاريخ والحضارة، مع دراما الحياة باستثمار كافة معطيات التراث الحضاري الإنساني استثمارا نقديا وتوظيفها توظيفاً خلاقا في خدمة التقدم، والنقد الشجاع لكافة العناصر الظلامية فيها والمتمثلة في الاستغلال، والقهر، وقمع الحريات. * فالأدب والفن والفكر قوة بين يدي الإنسان يحوًل بها نفسه والتاريخ معا من أجل إطلاق مواهبه وقدراته، وخصاله النبيلة لتعمل وتبني الحياة الأفضل. الأدب هو الانتصار الإنسان للإنسان وهو يصارع من أجل الانعتاق الكلي الدائم من غريزة الهدم. مادام الأدب طاقة كفاح الإنسان في هذا الكون بواسطة القوّة الإبداعية، فإن الالتزام بغير ذلك هو التزام بالطوباويات وبمجتمع معلق في الوهم. أريد هنا أن أتساءل ما علاقة الشعر بالتاريخ الشخصي والوطني؟ وهل يمكن أن توجد الذات والشعر أيضا خارج هذا التاريخ؟ ومن منهما الذي يصنع الآخر؟ هذا هو المحور الثاني الذي سيكون سرديتي المقبلة على ضوء تجربتي كطفل ولد وترعرع يافعا في زمان حرب التحرير الوطني وشهد أهوالها ومن ثم شيَّبه وشرّده عهد الاستقلال قبل الأوان وفيهما معا رأى بعينيه وبعقله عالمين مختلفين، بل متناقضين لحد الألم والبكاء الطويل.