مدينة وهران معلمةٌ ماهرةٌ في درس الأنوثة. أنوثة لَبُؤَة، لا مجال للضعف فيها. عندما كنتُ صغيرة، ثم وأنا أنمو قليلا قليلا، كنتُ أسير في طريقي إلى المدرسة، أكاد أسمع صدى زئير أُسُودها يردده البحر، أسودها ولبؤاتها التي أبيدت ولم يظل منها سوى أسدين يجثمان عند باب البلدية ينظران تجاه البحر. نعم اختفت الأسود ولكن الزئير الجبار الذي يختبئ في كتاب البحر، مازال ينعش ذاكرة الرجال، ويخصب أنوثة النساء. وهران مثل بعض المدن، سحرها على الأدباء والكتاب والفنانين ، مثل سحر بعض النساء على الرجال، لستَ تدري أين تكمن فعلا قوة الجذب وسلطة إغواء الواحدة منهن، في عالم أصبح كل شيء فيه سهلا ورخيصا، هل برزانة الحكمة، أم بسلطان الأنوثة. لستَ تعرف كيف تتربع على إحساس الواحد منهم، فتسكن مشاعره، ولغته، ومخياله ، ويومياته، وهواجسه، وجنونه، وكلامه حتى يخيل لك أنه آتٍ من وصل جميل بها،وأنت تدري أن الدنيا لم تسعفه ربما بلقائها قط . لمدينة وهران هذه القوة المغناطيسية حيال الفنانين، والكتاب، و الأدباء العرب، وغير العرب الذين قدموا إلى الحياة بين يديها، أو عبروها إليها، أو مروا بها. في جميع الأحوال لا تسمح هذه" الوهران " شقيقة الأسود، أن يمر بها أحد فتبقى ذاكرته بسلام. لا تسمح أن تمر بكامل أبهتها بخياله مرور الكرام، دون أن تترك وشما، حكاية ، جرحا أو أثر قبلة . كثرٌ هم ضحايا جمال وهران وسحرها كتبوا وغنوا ورسموا وقالوا فأبدعوا. كثرٌ إلى درجة أنه يمكن أن يُخصص لهم قاموس محيط بحجم المتوسط يؤرخ لأثرها . من سيرفانتيس، وجول فيرن، مرورا بسعدي يوسف، و نزار قباني، وصولا إلى أم سهام، و زهرة برياح، أو منير راجي. حتى ووهران مصابة بالوباء، لم يسلم ألبير كامو وهو الحاصل على جائزة نوبل من حضورها الطاغي العنيف، الذي دفعه أن يكتب عنها روايته "الطاعون" في أواسط القرن الماضي . حتى وهي تمسح عنها دماء جروحها الغائرة في التسعينات، لم تسلم آسيا جبار من وهج نظرة السيدة وهران الحزينة و الجذابة. تكتب آسيا المتربعة على كرسي الخالدين بالأكاديمية الفرنسية فتؤلف عنها كتابها الإبداعي (وهران اللسان الميت) وأغوت وهران كتابا متميزين من مثل مداد قصص عمار بلحسن، و عمار يزلي، و محمد سحابة، و الروائي الناسك "الحبيب السايح " في نصه الممتع ( الموت في وهران )، وغيرهم الكثير . في أواسط التسعينات ، وأنا ببيتي بشارع خمسيتي، تلقيتُ دعوة للمشاركة والضيافة في مهرجان جرش العريق، الذي تجري فعالياته بعمان عاصمة الأردن، وبمدرج جرش الأثري. التقيتُ بكتاب وأدباء كثر من جميع أقطار العالم العربي. في القاعة الملكية الغاصة بالجمهور المحب للشعر، يتقدمهم حضور السيدة ليلى شرف المثقفة الأردنية، و الشاعر اليمني الضرير الكبير عبد الله البردوني رحمه الله، والشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة، والشاعرالمصري المرحوم حلمي سالم و غيرهم. ألقيتُ من على منبر القاعة الملكية قصيدة جديدة عن مدينة وهران وهي تتألم تحت تهديد الهمجية الإسلاموية، بكل سموم الكراهية والحقد. لم تكن القصيدة طويلة كانت حزينة وضاربة في الوجع، نقلت إلى الجمهور الحاضر حالة مؤلمة لم يكن ربما يتصورها من قبل. في الجلسة الهامشية ما بعد الأمسية الشعرية، بدت القصيدة التي ألقيتُها وكأنها مفتاح صحيح فتح باب حديث لذيذ، ونقاش متشعب بين الضيوف من الأدباء العرب، دار حول مدينة وهران، وتاريخها، وحروبها، وسلامها، ومناخها، وزلزالها، وبحرها، وجبلها، وحقولها، وسهولها، وجبهة بحرها، وشوارعها، وأهم أخبارها، ووليها الصالح سيدي الهواري، ونسائها، ورجالها، وكتابها، وأدبائها.كانت وهران مرة أخرى سيدة المدن المعشوقة الغائبة الحاضرة في تلك الجلسة المؤنسة التي جمعت نخبة كبيرة من المثقفين والأدباء والشعراء العرب . قرأ الكثير منهم في تلك الجلسة الثقافية الهامشية بعض ما يحفظونه مما كتبوا عن الجزائر وثورتها، وشهدائها، وشعبها الأبي. وقرأ المرحوم الشاعر المصري المتميز حلمي سالم قصيدة من كتابه الشعري عن مدينة وهران، وسألتُه إن كان قد زارها من قبل، فأجاب إنه لم يرها أبدا، وكم تمنى أن يسافر إليها، وقد سبقه كتابُه وشعرُه . هي وهران إذن ياسادة ، هي وهران .! طويلة يد سلطانها على الشعر الجميل، أينما كان !.