لا بد أن الكثير من الوهرانيين مازالوا يتذكرون صراخ تلك السيدة من عشرات السنين. كان موجوعا يشق أستار الليالي.لا بد أنه مازال منزويا بكثافة في ثنية ما من جيوب البحر : أعطينيييييي صوالحييييييييي.. يذكرون صوتَها الصارخ الذي بدأ ذات ليلة قويا يزلزل الأسرّة تحت الأجساد، و يهز سكينة الوسائد تحت الرؤوس، ثم مافتئت حباله القوية أن ضعفت. تلاشى الصوت المتحشرج وبدأ يخفت ويخفت مع الليالي حتى بحّ: قبل أن تَسْودّ أثوابُها وتَغْبرّ، كانت في البداية امرأة جميلة. أجمل من "أنجلينا جولي" نفسها. من صنف هؤلاء اللواتي ذهبن بلُبِّ الشاعرعبد القادر الخالدي، ولم يكُنْ السيد "براد بيت" محظوظا برؤيتهن أبدا.. تلتفُّ في حائكها الأبيض الناصع، ويَنِمُّ هندامُها عن ذوق مُرهف في أناقته وانسجام ألوانه . تجلس أثناء النهار عند ناصية شارع "تريبولي"، تنظر إلى الناس دون أن تراهم، وينظرون إليها دون أن يروها. لا تردّ على أحد، وكأنها في عالم موازٍ غريب. وحين يسقط الليل تصطدم وحيدة بمصيبتها، فتنادي "براد بيت"الآخر، الذي سرق عقلها و"صوالحها"، فتجول في الشوارع وهي تصرخ بكل قواها : أعطينيييييي صوالحييييييي . لم أكن أعرف عنها شيئا سوى أن اسمها "اخْديجة "، وبعض أخبار تتردد في أحاديث النساء أثناء جلسات العصر حول مائدة القهوة و الشاي. لكنني - وأنا التي كنت صغيرة غريرة آنذاك مسكونة بقصص الحب الكبير وأغانيه ورواياته وأفلامه - كلما مررتُ باخْديجة أو رأيتها عن بعد، إلا وتسبقني دموعي. وأحيانا كثيرة يفاجئني بكاء مرير. الأمر الذي حيّر صديقاتي طاووس ومريم وباية اللواتي كنّ يسكن بعيدا، وينزلن كالعادة من الحافلة ال( 1 ) في موقف "بلاس دي فيكتوار" بموقفين قبل الوصول إلى الثانوية ، يمررن ببيتنا ثم نذهب معا على الأقدام إلى ثانوية لطفي، نستأنس وننعم بالأحاديث التي تنعش الفتيات عادة. مريم وباية وطاووس كلما شاهدن" اخْديجة" في طريقنا إلا و يُحِطن بي من كل جهة حتى لا أراها، أو يُغيّرن الاتجاه نحو أحد الأزقة يسارَ شارع العربي بن مهيدي، أو نحو طريق جبهة البحر. لكن أغلب الأحيان، كانت مريم تضع بسرعة كفيها على عينيّ، تغطيهما حتى تختفي، لكي لا نبدأ صباح ربّ العالمين بدموعي وبالبكاء والنكد. ! يشاع في المدينة، وجلسات العصر حول موائد الشاي والقهوة أن المسكينة السيدة (اخْديجة ) أصيبت بصدمة نفسية عنيفة مساء ذلك اليوم، عندما فتحت باب بيتها عائدة من حمام "سان بيير"، لتجد نفسها وجها لوجه مع امرأة شابة غريبة رفقة زوجها أو"بْرادْ بِيتْ ها". أخبرَها بمِلء فيهِ أنها عروسه و زوجته الجديدة، وأن من حقه القانوني الاحتفاظ بالسكن العائلي، وإذا ماعْجَبْهاَشْ الحال، فليس من حقها سوى أن تأخذ الباب معها. ربما هي الواقعة التي سكنتني لسنوات طويلة جدا، وجعلتني لا أتردد لحظة في الاستجابة لطلب معالي وزير العدل حافظ الأختام السيد الطيب بلعيز، الذي دعاني منذ سنين برسالة رسمية للانضمام إلى لجنة إعادة النظر في قانون الأسرة. كان من أهدافي الدفينة إلغاء هذا البند الجائر، بند (اخْديجة وأخواتها ). أعطينيييييي صوالحييييييييي.. شهور مرت.. لم يعد الوهرانيون ينزعجون من صوت اخْديجة القوي الذي كان يهز جنبات الليل، ويكسر زجاج الصمت فيتساقط قطعا قطعا فوق الطرقات والأرصفة والضمائر. وعلى الرغم أنه لم يهدأ ولم يتوقف لحظة عن الصراخ في وجه اللاعدل والخيانة، إلا أنه مزّق صدرها وممراته الهوائية. صوت اخديجة خانها كما خانها "بْرادْ بِيتْها".أصبح أنينا مبحوحا. مجرد حشرجة. تصرخ بقوة ولكن صراخها يرجع إلى داخلها. كأنها تبتلعه. كأنها تصيح في عالم آخر. ومع ذلك ظلت تصرخ بصمت عنيف، يشبه الصمت العنيف الذي يحيط بها . تريد أن تَسمَع نفسها وهي تطالب بحقها في صمت صارخ جريح مبحوح . - أعطينيييييي صوالحييييي ...... جملة وحيدة لا غير..تختصر الكلام، ولوائح الاحتجاجات، والخطب العصماء، عن الغبن والوجع والظلم ضد الإنسان. ولأن الظلم لا جنس له وأنّ ( مَنْ يَحقُر يُحقَر )، فلا بد أن السيدة اخديجة لم تكن تعلم أن صوتا ذكوريا موجوعا آخر. من البلاد أو من الطاليان لا يهم. في الضفة الأخرى من المتوسط. أو في الجهة الأخرى من الأرض. سيكرر بعد عشرات السنين صرخاتها المغبونة تلك. صوت آخر يغنّي جملتَها الوحيدة القوية نفسها، علّه يختصر الغبن الذي تعرض له مِنْ "بْريدا بيته" هو : جوزيفين جوزفين مادرتِ فيا ..أعطينييي صوالحي .........