تربية: ضرورة توجه الديوان الوطني للمطبوعات المدرسية نحو الإنتاج الرقمي والإلكتروني    سونلغاز: الرئيس المدير العام يستقبل السفير الإيطالي    العاب القوى/ البطولة العربية لأقل من 20 سنة: الجزائر تفتك خمس ميداليات، منها ذهبيتان    توافق التام للرؤى بين البلدين.. جمهورية الكونغو ترغب في إعادة بعث علاقاتها مع الجزائر    من الفاتح ماي إلى نهاية شهر أكتوبر.. أبناء الجالية لن يخضعوا للتأشيرة    منظمات للمتقاعدين تثمن القرار وتؤكد: الزيادات تأكيد على اهتمام رئيس الجمهورية بهذه الفئة    ستستعمل كأداة تعليمية في كليات الطب وملحقاتها..تقديم أول طاولة تشريح افتراضية ابتكارية جزائرية للتدريب على علم التشريح    إحياء ذكرى ماي الأسود: تدشين مرافق صحية وسياحية بقالمة    مع قطع الاحتلال شريان الحياة الوحيد لغزة مع العالم الخارجي    شهدتها شوارع قالمة أمس: مسيرة حاشدة تخليدا لضحايا ماي الأسود    القضاء على إرهابي وتوقيف 21 عنصر دعم خلال أسبوع    ساهمت في تقليل نسب ضياع المياه: تجديد شبكات التوزيع بأحياء مدينة البُرج    مستشفى عنابة: نجاح أول عملية قسطرة لجلطة السكتة الدماغية بالشرق    دفن رفات شهيدين ودعم قطاع الصحة بهياكل: استفادة 166 عائلة في جبال جيجل من الربط بالغاز    وهران..ترحيل 33 عائلة نحو سكنات لائقة    الأسلاك الطبية وشبه الطبية: نقابيون يثمنون المصادقة على القوانين الأساسية    مختصون ينوّهون بالقدرات في مجال إنتاج الأدوية و التوجه للتصدير: الصناعة الصيدلانية تساهم في تنويع الاقتصاد وتعزيز الصادرات    مستبعد لحاقه بموقعة ويمبلي: بن سبعيني ثالث جزائري في نهائي رابطة الأبطال    استذكار المحطات التاريخية التي تعبر عن اللحمة الوطنية    المسجلين مع الديوان الوطني للحج والعمرة: انطلاق عملية الحجز الإلكتروني للغرف للحجاج    لقاءات بين "ملائكة الأعمال" والطلبة المقاولين في الأفق    أكاديميون ومهنيون يشرحون واقع الصحافة والرقمنة    10 اتفاقيات تعاون بين متعاملين جزائريين وموريتانيين    العدوان الصهيوني على غزة تجاوز كل الحدود ولا يخضع لأي قواعد    شكر الرئيس لموظفي سونالغاز.. تقدير للعمال المثابرين    أولمبيك مرسيليا يبدي اهتمامه بضم عمورة    قمة في تيزي وزو واختبار صعب للرائد بخنشلة    القضاء على إرهابي وتوقيف 21 عنصر دعم للجماعات الإرهابية    استزراع صغار سمك "الدوراد" بسواحل العاصمة    التزام المتعاملين في السياحة بتقديم أسعار ترويجية    قافلة شبانية لزيارة المجاهدين عبر 19 ولاية    العثور على مقبرة جماعية ثالثة بمجمّع "الشفاء" الطبي    أمن عنابة في المؤسسات التربوية    نساء سيرتا يتوشحن "الملايا" و"الحايك"    تراث حي ينتظر الحماية والمشاركة في مسار التنمية    أعربوا عن استعدادهم في إثراء الأنظمة التعويضية للأسلاك الطبية: نقابيون يثمنون مصادقة مجلس الوزراء على مشاريع القوانين الأساسية    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    ليفركوزن يبحث عن بطاقة نهائي البطولة الأوروبية    لا تشتر الدواء بعشوائية عليكَ بزيارة الطبيب أوّلا    "كود بوس" يحصد السنبلة الذهبية    اللّي يَحسبْ وحْدُو!!    جزائري في نهائي دوري الأبطال    ورشة حول الفار في الجزائر    حصيلة إيجابية للمنتخب الوطني في لواندا    شيفرة لغة السجون    الحج دون تصريح.. مرفوض بإطلاق    اجتماع لتقييم مستوى التعاون بين جهازي الجمارك للبلدين    التوحيد: معناه، وفَضْله، وأقْسامُه    مهرجان الجزائر الدولي للموسيقى السنفونية : فنزويلا في أول مشاركة لها والصين ضيف شرف للمرة الثانية    التصفيات الجهوية المؤهلة للمهرجان الوطني لمسرح الهواة بمستغانم : مشاركة قياسية للفرق المسرحية والتكوين رهان محافظة المهرجان    الأيام السينمائية الدولية بسطيف: تتويج الفيلم القصير "كود بوس" بجائزة "السنبلة الذهبية"    "راهن الشعر الجزائري" : مهرجان شعري وملتقى دراسي بمناسبة عيد الاستقلال    سكيكدة: تنصيب أحمد ميرش مديرا للمسرح الجهوي    أفضل ما تدعو به في الثلث الأخير من الليل    مطالب ملحّة بترميم القصور والحمّامات والمباني القديمة    صيد يبدع في "طقس هادئ"    هول كرب الميزان    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحول جذري في النظام العالمي (الجزء الأول)
نشر في الحياة العربية يوم 12 - 12 - 2022


أولاف شولتز ** المستشار الألماني
يواجه العالم تحولاً جذرياً تاريخياً، أي [باللغة الألمانية] "تزفايتنفنده" Zeitenwende. إذ أنهى العدوان الروسي ضد أوكرانيا حقبة تاريخية. وقد نشأت قوى جديدة أو عادت إلى الظهور، بما في ذلك الصين القوية اقتصادياً والحازمة سياسياً. في هذا العالم الجديد المتعدد الأقطاب، تتنافس بلدان ونماذج حكومية مختلفة على السلطة والنفوذ.
بمقدار ما تعلق الأمر بها، تبذل ألمانيا كل ما في وسعها من أجل الدفاع عن نظام دولي مستند إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. إذ تعتمد ديمقراطيتها وأمنها وازدهارها على القوة الملزمة للقواعد المشتركة [في النظام الدولي]. ويشكل ذلك السبب الذي يجعل الألمان عازمين على أن يؤدوا دور ضامني الأمن الأوروبي على نحو ما يتوقع حلفاؤنا منا أن نكون. كذلك يعتزم الألمان أن يصبحوا بُناة الجسور وصلات الوصل داخل الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى كونهم مؤيدي الحلول المتعددة الأطراف للمشكلات العالمية. وفي الحقيقة، يمثل ذلك الطريقة الوحيدة كي تتخطى ألمانيا بنجاح الخلافات الجيوسياسية في عصرنا.
ويمتد هذا التحول الجذري التاريخي إلى ما هو أبعد من الحرب في أوكرانيا، ويتجاوز أيضاً مسألة الأمن الأوروبي. إن السؤال الأساسي المطروح هنا هو التالي: كيف يمكننا، كأوروبيين وكاتحاد أوروبي، أن نبقى جهات فاعلة مستقلة في عالم يتزايد توجهه نحو تعدد الأقطاب فيه؟ [النظام الدولي المتعدد الأقطاب يعني وجود أكثر من قطب دولي عند رأس ذلك النظام. في المقابل، يوصف النظام العالمي الذي نشأ بعد الحربين العالميتين بأنه متعدد الأطراف، بمعنى انخراط مجموعة كبيرة من الدول فيه. وكذلك يشار إليه بوصفه معتمداً على القوانين والقواعد المشتركة].
في الواقع، يمكن لألمانيا وأوروبا المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي المستند إلى القواعد والأحكام القانونية، من دون الاستسلام للنظرة المتشائمة بأن العالم محكوم عليه بالانقسام مرة أخرى إلى كتل متنافسة. ويلقي تاريخ بلادي على عاتقها مسؤولية خاصة تتمثل بمحاربة قوى الفاشية والاستبداد والإمبريالية. في الوقت نفسه، تخولنا تجربة انقسامنا إلى نصفين خلال صراع أيديولوجي وجيوسياسي [في زمن الحرب الباردة] أن نقدر بدقة مخاطر اندلاع حرب باردة جديدة. [امتدت الحرب الباردة بين الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفياتي، وشغلت معظم النصف الثاني من القرن العشرين].
..نهاية حقبة
بالنسبة إلى معظم دول العالم، شهدت العقود الثلاثة التي انقضت منذ سقوط "الستار الحديدي" فترة سلام وازدهار نسبيين. [استخدم تعبير الستار الحديدي في الإشارة إلى ما فصل بين الغرب وبين والاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية في الحرب الباردة].
وفي تلك الفترة، خلقت التطورات التكنولوجية مستوى غير مسبوق من الاتصال والتعاون. واستطراداً، أدى نمو التجارة الدولية، وسلاسل القيمة والإنتاج المنتشرة عالمياً، والتبادلات غير المسبوقة للموارد البشرية والمعرفة عبر الحدود، إلى انتشال أكثر من مليار شخص من براثن الفقر المدقع. والأهم من ذلك، أن المواطنين الشجعان في جميع أنحاء العالم أطاحوا بالديكتاتوريات وحكم الحزب الواحد، وقد غير توقهم إلى الحرية والكرامة والديمقراطية مجرى التاريخ. بعد حربين عالميتين مدمرتين وقدر كبير من المعاناة، تسببت بلادي في جزء كبير منها، سيطر التوتر والمواجهة لفترة تتخطى أربعة عقود في ظل إبادة نووية محتملة. ولكن مع حلول تسعينيات القرن العشرين، بدا أن نظاماً عالمياً أكثر صموداً قد ترسخ أخيراً.
في الحقيقة، يمكن للألمان على وجه الخصوص، أن يقدروا النعم التي لديهم. في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، سقط جدار برلين على يد مواطني ألمانيا الشرقية الشجعان. وبعد 11 شهراً فحسب، توحدت البلاد بفضل السياسيين البعيدي النظر ودعم الشركاء في الغرب والشرق. ففي النهاية "ينمو معاً، ما ينتمي لبعضه بعضاً"، بحسب قول المستشار الألماني السابق ويلي براندت بعد وقت قصير من سقوط الجدار.
..أزمة النظام العالمي الحقيقية تتمثل في تراجع الليبرالية
ولا تنطبق تلك الكلمات على ألمانيا فحسب بل أيضاً على أوروبا ككل. إذ اختار الأعضاء السابقون في "حلف وارسو" أن يصبحوا حلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأعضاءً في الاتحاد الأوروبي. [في الحرب الباردة، ضم حلف وراسو الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية] ولم تعد عبارة "أوروبا كاملة وحرة"، وفق تعبير جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، لتبدو كأنها أمل لا أساس له. في تلك الحقبة الجديدة، بدا ممكناً أن تصبح روسيا شريكاً للغرب بدلاً من العدو الذي كانه الاتحاد السوفياتي. ونتيجة لذلك، قلصت معظم الدول الأوروبية جيوشها وخفضت ميزانياتها الدفاعية. بالنسبة إلى ألمانيا، كان المنطق بسيطاً، فلماذا نحافظ على قوة دفاع كبيرة قوامها حوالى 500 ألف جندي في حين يبدو أن جميع جيراننا أصدقاء أو شركاء؟
بالتالي، تحول تركيز سياستنا الأمنية والدفاعية بسرعة نحو التهديدات الملحة الأخرى. وزادت حروب البلقان وتبعات هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بما في ذلك الحربان في أفغانستان والعراق، من أهمية إدارة الأزمات الإقليمية والعالمية. وبقي التضامن داخل "الناتو" على حاله، بيد أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 أدت إلى اتخاذ القرار الأول بشأن تفعيل المادة الخامسة، أي بند الدفاع المتبادل في معاهدة حلف "الناتو"، وعلى مدى عقدين من الزمن، حاربت قوات "الناتو" الإرهاب جنباً إلى جنب في أفغانستان.
استقت مجتمعات الأعمال في ألمانيا دروسها الخاصة من المسار الجديد للتاريخ. إذ فتح سقوط الستار الحديدي وبروز اقتصاد عالمي بدا أنه الأكثر تكاملاً من أي وقت مضى، فرصاً وأسواقاً جديدة، لا سيما في بلدان الكتلة الشرقية السابقة وكذلك في بلدان أخرى ذات اقتصادات ناشئة، خصوصاً الصين. وبطريقة موازية، أثبتت روسيا، بمواردها الهائلة من الطاقة والمواد الخام الأخرى، أنها مورد موثوق به خلال "الحرب الباردة"، وبدا من المعقول، في الأقل حين البداية، توسيع تلك الشراكة الواعدة في وقت السلم.
وعلى رغم ذلك، شهدت القيادة الروسية تفكك الاتحاد السوفياتي السابق وحلف وارسو، فتعلمت دروساً تختلف بشكل حاد عن تلك التي تعلمها القادة في برلين والعواصم الأوروبية الأخرى. عوضاً عن رؤية الإطاحة السلمية بالحكم الشيوعي كفرصة لمزيد من الحرية والديمقراطية، فقد وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين". وأدى الاضطراب الاقتصادي والسياسي في أجزاء من منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، إلى تفاقم الشعور بالخسارة والألم الذي يربطه كثير من المواطنين الروس حتى يومنا هذا، بنهاية الاتحاد السوفياتي.
..نقطة تحول جذري في النظام العالمي
في تلك البيئة بالتحديد بدأت الطموحات الاستبدادية والإمبريالية في الظهور من جديد. في عام 2007، ألقى بوتين خطاباً عدوانياً في "مؤتمر ميونيخ للأمن"، مستهزئاً بالنظام الدولي المستند إلى القواعد باعتباره مجرد أداة للهيمنة الأميركية. في العام التالي، شنت روسيا حرباً على جورجيا. في عام 2014، احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها، وأرسلت قواتها إلى أجزاء من منطقة دونباس في شرق أوكرانيا، في انتهاك مباشر للقانون الدولي والتزاماتها الخاصة بمعاهدة موسكو. [في سلسلة معاهدات، تعهدت موسكو بخفض التسلح النووي وتطبيع العلاقات مع أوروبا، خصوصاً ألمانيا].
في المقابل، في السنوات التالية عمل الكرملين على تقويض معاهدات الحد من التسلح وتوسيع قدراته العسكرية، وتسميم المعارضين الروس وقتلهم، وقمع المجتمع المدني، وتنفيذ تدخل عسكري وحشي من أجل دعم نظام الأسد في سوريا. خطوة تلو الأخرى، اختارت روسيا الخاضعة لبوتين طريقاً أبعدها من أوروبا ومن نظام تعاوني سلمي.
..عودة الإمبراطورية
خلال السنوات الثماني التي أعقبت الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم واندلاع الصراع في شرق أوكرانيا، ركزت ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون والدوليون في "مجموعة الدول السبع الكبرى" على حماية السيادة والاستقلال السياسي في أوكرانيا، ومنع مزيد من التصعيد الروسي واستعادة السلام في أوروبا والحفاظ عليه. وقد اختارت نهجاً متمازجاً جمع بين الضغط السياسي والاقتصادي والإجراءات التقييدية على روسيا من جهة، وبين الحوار معها من جهة ثانية. جنباً إلى جنب مع فرنسا، انخرطت ألمانيا في ما سمي "صيغة النورماندي" التي أدت إلى "اتفاقات مينسك" والإجراءات المرافقة لها، وكذلك دعت روسيا وأوكرانيا إلى الالتزام بوقف إطلاق النار واتخاذ عدد من الخطوات الأخرى. على رغم النكسات وانعدام الثقة بين موسكو وكييف، استمرت ألمانيا وفرنسا في تنفيذ الإجراءات المنصوص عليها في الاتفاقيتين. بيد أن روسيا الرجعية جعلت نجاح الدبلوماسية أمراً مستحيلاً.
أدى الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 إلى ظهور واقع جديد تماماً يتمثل بعودة الإمبريالية إلى أوروبا، إذ تستخدم روسيا بعضاً من أبشع الأساليب العسكرية في القرن العشرين وتتسبب في معاناة لا توصف في أوكرانيا. وبالفعل، لقد لقي عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين الأوكرانيين حتفهم، وأصيب كثيرون بجروح أو صدمات نفسية. بطريقة موازية، اضطر ملايين المواطنين الأوكرانيين إلى الفرار من منازلهم بحثاً عن ملاذ في بولندا ودول أوروبية أخرى، وتوجه مليون منهم إلى ألمانيا. لقد أدى قصف المدفعية والصواريخ والقنابل الروسية على المنازل والمدارس والمستشفيات الأوكرانية إلى جعلها أنقاضاً. إن ماريوبول، إيربين، خيرسون، إيزيوم، هي من الأماكن التي ستذكر العالم بجرائم روسيا إلى الأبد، وينبغي تقديم الجناة إلى العدالة.
من ناحية أخرى، يمتد تأثير الحرب الروسية إلى أبعد من أوكرانيا. وحينما أصدر بوتين الأمر بالهجوم، فإنه حطم بنية السلام الأوروبية والدولية التي استغرق بناؤها عقوداً. تحت قيادة بوتين، تحدت روسيا حتى أبسط مبادئ القانون الدولي على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، بما فيها التخلي عن استخدام القوة كوسيلة من وسائل السياسة الدولية، والتعهد باحترام استقلال جميع الدول وسيادتها ووحدة أراضيها. بصفتها قوة إمبريالية، تسعى روسيا الآن إلى إعادة رسم الحدود بالقوة وتقسيم العالم، مرة أخرى، إلى كتل ومناطق نفوذ.
..أوروبا أكثر قوة
يجب على العالم ألا يسمح لبوتين بالحصول على ما يريده. وكذلك، ينبغي وقف الإمبريالية الانتقامية التي تنتهجها روسيا. إذاً، يتمثل الدور الحاسم لألمانيا الآن في تعزيز مكانتها كواحدة من مزودي الأمن الرئيسين في أوروبا، من خلال الاستثمار في جيشنا، وتقوية صناعة الدفاع الأوروبية، وزيادة وجودنا العسكري على الجناح الشرقي لحلف "الناتو"، وتدريب القوات المسلحة الأوكرانية وتجهيزها.
وسيتطلب دور ألمانيا الجديد ثقافة استراتيجية جديدة، وسيتجسد ذلك في استراتيجية الأمن القومي التي ستتبناها حكومتي بعد بضعة أشهر من الآن. على مدى العقود الثلاثة الماضية، اتخذت القرارات المتعلقة بأمن ألمانيا وتجيهزات القوات المسلحة للبلاد، على خلفية أن أوروبا تنعم بالسلام. أما الآن، فالسؤال التوجيهي المطروح سيكون متمحوراً حول التهديدات الآتية من روسيا، التي يتوجب علينا بشكل مباشر، نحن وحلفاؤنا مواجهتها في أوروبا. وتشمل تلك التهديدات الهجمات المحتملة على أراضي الحلفاء، والحرب الإلكترونية، وحتى الفرصة الضئيلة لهجوم نووي، وقد هدد به بوتين بشكل واضح نوعاً ما.
في الواقع، تعد الشراكة عبر الأطلسي أساسية في مواجهة تلك التحديات وستظل كذلك. وفي ذلك السياق، يستحق الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته الثناء على بناء شراكات وتحالفات قوية في جميع أنحاء العالم والاستثمار فيها. إضافة إلى ذلك، يتطلب إرساء شراكة متوازنة ومرنة عبر الأطلسي أن تؤدي ألمانيا وأوروبا دوراً نشطاً. في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، تمثل أحد القرارات الأولى التي اتخذتها حكومتي بتخصيص صندوق خاص مقداره 100 مليار دولار تقريباً لتجهيز قواتنا المسلحة، "بوندسفير" [الجيش الألماني]، بشكل أفضل. وقد ذهبنا إلى حد تغيير دستورنا من أجل إنشاء ذلك الصندوق. ويمثل هذا القرار أبرز تغيير في السياسة الأمنية الألمانية منذ تأسيس ال"بوندسفير" في عام 1955. إذاً، سيحصل جنودنا على الدعم السياسي والمواد والقدرات التي يحتاجون إليها للدفاع عن بلادنا وحلفائنا. ويتمثل الهدف المنشود بجيش ألماني يمكننا الاعتماد عليه نحن وحلفاؤنا. من أجل تحقيق ذلك، ستستثمر ألمانيا اثنين في المئة من ناتجنا المحلي الإجمالي في دفاعنا.
وتعبر هذه التغييرات عن عقلية جديدة في المجتمع الألماني. اليوم، تتفق غالبية كبيرة من الألمان على أن بلادهم بحاجة إلى جيش قادر ومستعد لردع خصومها والدفاع عن نفسها وعن حلفائها. ويقف الألمان إلى جانب الأوكرانيين في الدفاع عن بلادهم ضد العدوان الروسي. من عام 2014 إلى عام 2020، شكلت ألمانيا أكبر مصدر يزود أوكرانيا بالاستثمارات الخاصة والمساعدات الحكومية مجتمعة. ومنذ بدء الغزو الروسي، عززت ألمانيا دعمها المالي والإنساني لأوكرانيا وساعدت في تنسيق الاستجابة الدولية أثناء توليها رئاسة "مجموعة السبع".
في هذا الإطار، فقد دفع ال"تزفايتنفنده" [التغير الجذري التاريخي] بحكومتي إلى إعادة النظر في مبدأ راسخ منذ عقود من الزمن في السياسة الألمانية في شأن صادرات الأسلحة. فاليوم، للمرة الأولى في تاريخ ألمانيا الحديث، نحن نقدم الأسلحة في حرب مستعرة بين دولتين. في حواراتي مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أكدتُ على أمر واحد بوضوح مفاده أن ألمانيا ستواصل جهودها الرامية إلى دعم أوكرانيا ما دامت الحاجة تقتضي ذلك. وحاضراً، يتجسد أشد ما تحتاج إليه أوكرانيا بالمدفعية وأنظمة الدفاع الجوي، وذلك بالضبط ما تقدمه ألمانيا، بالتنسيق الوثيق مع حلفائنا وشركائنا. واستطراداً، يشمل الدعم الألماني لأوكرانيا أيضاً الأسلحة المضادة للدبابات وناقلات الجنود المدرعة والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات وأنظمة الرادار المضادة للبطاريات. كذلك، ستوفر بعثة الاتحاد الأوروبي الجديدة تدريبات لما يصل إلى 15 ألف جندي أوكراني، بما في ذلك ما يصل إلى 5000 في ألمانيا، أي ما يوازي لواء كاملاً. وفي الوقت نفسه، سلمت جمهوريات التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا، أو تعهدت بتسليم، حوالى 100 دبابة قتال رئيسة من الحقبة السوفياتية إلى أوكرانيا. وكذلك ستعمل ألمانيا على تزويد تلك البلدان بالدبابات الألمانية المجددة [بمعنى أنها دبابات من الحقبة السوفياتية عملت ألمانيا على تجديدها]. وبهذه الطريقة، تتلقى أوكرانيا دبابات تعرفها القوات الأوكرانية جيداً ولديها خبرة في استخدامها ويمكن دمجها بسهولة في مخططات الصيانة واللوجيستيات الحالية في أوكرانيا.
وفي السياق نفسه، يجب ألا تؤدي تصرفات "الناتو" إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، لكن يتوجب على الحلف أن يردع بشكل موثوق أي عدوان روسي إضافي. ولهذه الغاية، زادت ألمانيا بشكل كبير تواجدها على الجناح الشرقي لحلف "الناتو". ففي ليتوانيا، عززت ألمانيا مجموعة قتالية تعمل تحت قيادتها وتتبع حلف شمال الأطلسي، وكذلك أفردت لواء لضمان أمن ذلك البلد. كذلك، تسهم ألمانيا بقوات في المجموعة القتالية لحلف شمال الأطلسي داخل سلوفاكيا. وبطريقة موازية، تقدم القوات الجوية الألمانية مساعدة في مراقبة وتأمين المجال الجوي في إستونيا وبولندا. في غضون ذلك، تشارك البحرية الألمانية في أنشطة الردع والدفاع الخاصة بحلف "الناتو" في بحر البلطيق. ستسهم ألمانيا أيضاً بفرقة مدرعة، إضافة إلى أعتدة جوية وبحرية مهمة (جميعها في حالة تأهب قصوى) في المخطط العسكري الجديد لحلف "الناتو" NATO's New Force Model، الذي وضع من أجل تحسين قدرة الحلف على الاستجابة بسرعة لأي طارئ. وستستمر ألمانيا في التمسك بالتزامها بترتيبات حلف "الناتو" في ما يتعلق بتقاسم الأسلحة النووية، بما في ذلك شراء طائرات مقاتلة من طراز "أف 35" F-35 المزدوجة القدرات. [تمتلك تلك الطائرة قدرات تتعلق بالمهمات القتالية التقليدية، إضافة إلى الحرب الإلكترونية والسيبرانية].
إن رسالتنا إلى موسكو واضحة للغاية، وتتمثل بأننا مصممون على الدفاع عن كل شبر من أراضي "الناتو" ضد أي عدوان محتمل. وسنحترم تعهد "الناتو" الرسمي بأن ينظر إلى الهجوم على أي واحد من الحلفاء بوصفه هجوماً على الحلف بأكمله. كذلك، أوضحنا لروسيا أن خطابها الأخير في شأن الأسلحة النووية متهور وغير مسؤول. حينما زرت بكين في نوفمبر 2022، اتفقت أنا والرئيس الصيني شي جينبينغ على أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية أمر غير مقبول واستعمال مثل هذه الأسلحة المروعة سيتجاوز الخط الأحمر الذي رسمته البشرية على نحو صائب. يجب على بوتين أن يتذكر تلك الكلمات جيداً.
ومن بين حسابات خاطئة كثيرة أجراها بوتين، يبرز رهانه على أن غزو أوكرانيا سيؤدي إلى توتر العلاقات بين خصومه. في الواقع، حدث العكس تماماً. إذ أصبح الاتحاد الأوروبي والتحالف عبر الأطلسي أقوى من أي وقت مضى. إن أكثر مكان يتجلى فيه هذا الأمر هو العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي تواجهها روسيا. كان من الواضح منذ بداية الحرب أن هذه العقوبات يجب أن تبقى سارية المفعول لفترة طويلة، إذ إن فعاليتها تزداد مع مرور كل أسبوع. وعلى بوتين أن يفهم أن أي عقوبة منها لن ترفع إذا حاولت روسيا أن تملي شروط اتفاق سلام.
في المقابل، أثنى جميع قادة دول مجموعة السبع على استعداد زيلينسكي لتحقيق سلام عادل يحترم وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها ويحمي قدرتها على الدفاع عن نفسها في المستقبل. بالتنسيق مع شركائنا، ألمانيا على أتم استعداد للتوصل إلى ترتيبات من أجل الحفاظ على أمن أوكرانيا كجزء من تسوية سلمية محتملة بعد الحرب. وعلى رغم ذلك، لن نقبل الضم غير القانوني للأراضي الأوكرانية، المقنع بشكل سيئ باستفتاءات زائفة. ولإنهاء هذه الحرب، يتوجب على روسيا سحب قواتها.
….. يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.