حين تسرق الأنفاس من الأنفاس ويتحول الربيع إلى شتاء من الأحزان، حينها تتفجر الكلمات الراعدة من أعماق الجرح براكين غاضبة مزلزلة، شواظ من نار، تتطاير حروفها شظايا في السديم، لتكشف الوجود في لحظات التشظي، زفرات تلاحقها آهات، فتلهث النبضات مرتعشة، لتسير عكس ساعات الخفق، فتسكن جفون الدمع الهطال، في ليالي غزة المترعة بالهمهمات، المثخنة بالجراح النازفة قيحا، في نهاراتها المتعبة الجاثمة في الردم، ظلم ممتدة عذاباته امتداد الأفق في الجسد الممزق، ظلم يتماهى مع كل صباحات القطاع، تعرج فيه الآهات مع أسراب الجراحات ووجع الأنين، في مدينة محاصرة، تعيش حربا ضروسا، حرب إبادة على المباشر.. مدينة يكسوها الألم والأمل، ويخلد صمودها فرسان الشعر ومن بينهم الأخضر فلوس.. في إحدى روائع أشعاره.. ربيع غزة عنوان قصيدة متفردة بكلماتها، وبما حوته من معاني مشبعة بالمداليل المتمازجة مع ألوان ربيع غزة المبكر، المعبرة بصدق عن أنبل المشاعر وأشدها وقعا على النفوس، أبدع فيها الشاعر المتألق الأخضر فلوس وخاطب من خلالها مشاعر الأمة وضمائر رعاتها ودعاتها وحتى الذين التزموا صمت الجبناء، وران على قلوبهم ومثلوا دور المتملقين العملاء، القصيدة المقروءة نشرتها جريدة صوت الأحرار المحروسة في العدد 3314 بتاريخ 14 / 01 / 2009 وهي من عيون الشعر بل هي من أجمل ما قيل في الحرب الوحشية على غزة الصامدة.. حاملة لواء الجهاد والعزة، يقف الشاعر الأخضر فلوس كالصقر على عتبة القصيدة وقفة التحدي ليمنحك تأشيرة العبور إلى ربيع غزة، فيرمز إلى الحياة بالربيع ومباهجه، ليبعث فيك الحياة المتوثبة ويحررك من طغيان اليأس والاستسلام، عنوان ليس استفزازيا بقدر ما هو شاعري ينفتح على الحياة بقوة ويجبر المتلقي على الإبحار في تضاريس شعرية متشعبة تفضي بك إلى فضاءات غزة ودروبها ومسالكها، من خلال قراءة واعية للنص الذي يجعلك تتقمص السؤال.. هل ربيع غزة صار شتاء؟ أم صار أهوالا وأحزانا؟ أم ربيعا يعبق أريجه بأطايب كلمات الشهادة؟ عنوان القصيدة يشغلك إي والله.. ويجعلك تعاود القراءة لتلج النص وتستوعب معانيه الحبلى، ''قدر يكون البحر بحرا من دم يهوى جمارا فوق إعصار الفم'' قدر أن تكون غزة بحرا من الدماء تحميها الشفاه والفم، والسواعد الموحدة كيد واحدة تضرب بقوة على هامات الجبابرة، قدر أن صارت الوحوش مسرفة في التدمير والقتل مطلقة الأعنة، توقد نار جهنم وتذيق الأطفال هولها، تتخبط خبط عشواء في ظلمة الليل وفي شمس الضحى، تقتل الطفل الرضيع وأمه، والشيخ المقعد وابنه، وتفجر البيوت على ساكنيها، ليل يجر هموم ليل دامس.. ولحظاته كئيبة.. ''قدر تداهمك الليالي خلفها وحش يذيق الطفل نار جهنم أرواح تزهق، شظايا متساقطة ترقص على جرح القلب كالأنجم اللوامع ليل على ليل يجر وراءه ليل على قلبي وجرحك أنجمي الجرح لا يبرأ إلا بالجراح، وبه تبزغ شموس ألف صبح، إذ بعد الجراح نسترجع عافيتنا وأمننا ونسترد حقوقنا المسلوبة ويكون لنا معنى في هذا الوجود منه سيطلع ألف صبح رائع بعد الجراح بخصب ذاك الموسم فالأرض تعطيك ما أعطيتها حبا وجهدا وعرقا، والجرح لا يكون جرحا ما لم يكن له ثمن،والذي لا يزرع لا يحصد، ولا ينتظر من حقله إلا الأشواك ها ينحني قلبي لغزة هاشم ويذوب في الإعصار حتى تسلمي كبرياء غزة وعظمتها في صمودها وصبرها وثباتها، كما الحياة تعلمنا أن الحياة لاتكون إلا للأقوى ذاك الذي يثبت وجوده، ويرد الصائل بما أمكن، ولهذا فشاعرنا ينحني بقلبه إجلالا وتقديرا لضحايا غزة ومحرقتها، لنسائها وأطفالها ولرجالها الأشاوس صناع الملحمة الكبرى، ويسرج لها نبض القلب، وسيظل القلب يعتصر إجلالا إلى أن يذوب في الإعصار الرهيب، ستظل كل القلوب معلقة بأهداب غزة الطود الأشم، صانعة المجد، إلى أن تسلم وتنتصر النصر المؤزر، سيتحدث التاريخ ويذكر أهلنا الشرفاء مع أحرار العالم ذكرا حميدا ''تهتز آخرة.. ويخرج بعثها من ألف فج، كالغمام المنعم'' صور تلامس الوجدان، تهتز أرض الأنبياء وتخرج عروس البحر أثقالها، ومن تحت الردم يكبر أبطالها، وترعب بالأشلاء أعداءها، كيوم البعث تخرج أسرارها، سحب الغمام تغازل دخانها، من كل فج ومن ألف فج يفتحون جبهاتها، تصعد أبخرتهم مسمومة لتلوث هواءها، يرومون إسكات أنفاسها، ويتبجحون بكبح جماح صواريخها ولكنهم لا يفلحون وتحلبت تلك الغمائم في يد وسرت نشيدا في الفضاء الأعظم أجل.. تحلبت الغمائم وصارت ندا للند، نشيدا في الفضاء الأعظم، وصوتا صداحا عند العرب والعجم، صواريخ القسام تعبر السماء والأرض، كبرت غزة فوق الكبار بفكرها وجهادها وقاومت وما انثنت عزائم أبنائها، ولا ضعفت نجدتها ولا استكانت للأوهام إرادتها، أوقدتها حربا لتسترد مجدا، ولم تقف على قارعة المفاوضات والمؤتمرات تستجدي حقوقا، رغم الحصار والتجويع والدمار وشلالات الدماء، ورغم وقوف الذين يمتلكهم هوس الكراسي الوهمية ''لا وقت للأوهام. أوقدها نارا إن ترتدي هذا الحريق لننتمي أوقدها نارا وتوكل على الله، الوقت ليس في صالح المتوهمين الحالمين، وليتهم إخوة الدرب أدركوا الحقيقة المرة، لكن وا أسفاه الأقارب صاروا عقارب.. إن غزة ترفض الانطباح والخنوع، وترفض النسيان لاقتناعها الراسخ بشرعية المقاومة حتى وإن تجرعت مرارتها (وماضاع حق وراءه ثائر) وهي لذلك مصممة على المضي في مطالبها ''في النار يزهر ألف غصن بالشذا ومن الخراب يطل نفح الفرعم فالغصن إذا شذب وقوم ينتج ثمارا أجود وأكثر، والغابة المحروقة تعود لها الحياة، فتلبس حلتها الخضراء ويزيدها ألق الإزهار بهجة وجمالا، ومن تحت خرائب الديار تمتد أعناق البراعم، وتتفتح أزهار بألوان الطيف، وفي ثنايا المعترك عبر ممرات وصور شعرية متدفقة تلامس الوجدان يقول الشاعر: مخاطبا غزة الجريحة، وفلسطين مواسم للموت ''إنا نحبك.. هذه أقدارنا أن نرتدي هذا الحريق لننتمي'' نحبك حتى وإن تجلجل الحزن في الأضلاع، وشاءت أقدارنا أن تلبسي سواد الأحزان لتنتصري، حتى وإن قلناها متأسفين إنا انتمينا للحقيقة وحدها فاغرس حريقك في عيون النوم'' فاغرس حريقك في عيون النائمين الحالمين المتسولين سلاما، المتصنمين أفكارا، خرصت الألسن التي عابت واستهترت بالمقاومة، وجف مداد خبثهم وخسؤوا، الصواريخ ليست عبثية، والسلام الحقيقي سيكون من هنا من غزة الثائرة، من الصدور العارية والبطون الجائعة، من قلوب ملئت بنور الإيمان متوكلة على الذي أقسم بالقلم والفرقان.. ''فلربما انجلت الطريق وربما حط السلام على شراع من دم'' إن الموت الجميل يفضي إلى واحة الخلد في أعالي الجنان، وإن حرقة الموت لا تضاهيها حرقة سيما تلك التي تترك يتامي وثكالى وإعاقات، لكن هي الحرب، وكلفتها عالية شراع من الدم، وغزة تستحق والقدس، يستحق وفلسطين هي المستحق ''لاسيف إلا صدرك العاري ولا حلم سوى خلجات قلب مفعم'' وإن الذي يموت واقفا كالنخلة من أجل وطنه وعرضه هو لم يمت، لطالما أن الانتصار لا يتحقق إلا بالدماء، يقول ''تشرشل'' ما معناه: لا أستطيع أن أعدكم بالنصر إلا بالعرق وبالدم والدموع والجهد..'' ولم يقل بالمؤتمرات والمؤامرات، فربيع غزة في زناد المسلم، وليس في الحديث عن السلام والجلوس إلى السفهاء من أجل الكلام ''موت أجل من الحياة بذله فربيع غزة في زناد المسلم'' خرافة أن يثق صاحب الحق في سارقه ويركن إلى أخدان السفهاء، إنه كمن إئتمن ذئبا شرسا على قطيع ''لا في الحديث عن السلام سفاهة إن السلام خرافة المستسلم'' فسلام المستسلم الخانع خرافة والمتنازل على الأرض خيانة، والمتملق جبان.. النص من بدايته إلى نهايته لوحة فنية فريدة في الوجع يتضوع جمالا ورقة وصورا بديعة، من خلاله يذرف ''الأخضر فلوس'' دموعا على أطفال غزة كحبات البرد، ويمتعنا بشعر مدهش يفيض رقة وعذوبة فيجعلنا نقرأ بوعي ونؤول ما نقرأ، ونرتع في خمائل غزة، وفي رياض عبقها الطيب كأهلها، وفي تضاريس الشعر الملتزم، عشنا الحدث بكل أبعاده وتجلياته ''يفضي بك الموت الجميل لواحة أو راحة أو حرقة لميتم'' إنه وبالجملة شاعر فحل تطيع له الألفاظ ويملك مساحة واسعة للبوح بأفكاره ومشاعره وانشغالات أمته، مشرقها ومغربها.. فله منا ومن كل القراء الأوفياء التحية والتقدير.. والشكر الجزيل لجريدتنا الغراء..
