'' الرواية، هذه العجائبية..هذا العالم السحريّ الجميل بلغتها، وشخصياتها، وأزمانها، وأحيازها، وأحداثها، وما يعْتور كل ذلك من خصيب الخيال، وبديع الجمال..ما شأنها؟ وما مشكلاتها؟ تعالت بعض الأصوات أيامنا هذه، وحتى قبلها، وتأكيدا ستتواصل بما أطلقوا عليه ب '' موت الرواية '' أو '' احتضار الرواية '' مستندين إلى عدة عوامل .... وربما غاب عن هؤلاء من أن الرواية كجنس أدبي بما تتميّز به عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، ميْلها الشديد لحيوات الناس، واقترابهم من واقعهم، وهذا الأمر لا غرابة فيه، فقد تبلورت الرواية في رحم القرن الثامن عشر.. تلك الحقبة من الزمن التي شهدت تغيرات جوهرية في كل مناحي الحياة في أوروبا الغربية، تطلبت بالضرورة شكلاً جديدا من التعبير يستوعب تلك المتغيرات التي مسّت كل مناحي الحياة. إن هذا يدفع بنا إلى القول بأن الرواية رديفة الحراك المستمر والمتعدد في أيّ مجتمع إنسانيٍّ، وكلّما تنوّع هذا الحراك وتكثّف إلاّ وانتعشت الرواية، في تعدّدها، وتنوّعها، ومواضيعها، لا كجنس أدبيٍّ فنيٍّ، وأداة سحرية للاتصال، والتواصل، بل وكوسيلة فعّالة للتثوير،وكأداة لترسيخ القيم، والأخْلقة، ودغدغة المشاعر، ولفْت الأنظار إلى مواطن الجمال، وتحريك ما هو راكدٌ وما هو نمطي، بل ونسْف ما هو مكبِّلٌ للطاقات. الباحثة الفرنسية '' إيزابيل هوسير'' في محاضرة لها تعلن زوال الرواية في قرننا هذا نتيجة لسيادة العقلانية، والواقعية، اللذيْن يزيحان الجانب المتخيّل والذي هو أكثر من أساسي لكلّ عملٍ فنيٍّ، ومن بين ذلك الرواية: « إن القرن الحالي قد يشهد موت الرواية التي تُعدّ من أهمّ الأجناس الأدبية، نتيجة تراجع الجانب المتخيلّ فيها لصالح الجانبين العقلي، والواقعي.» كما أن الروائي التشكسلوفاكي المتمرد '' ميلان كونديرا '' بدوره في كتايه '' فن الرواية ''يعلن عن موت الرواية بقوله: « أن الرواية لم تعد عملا وإنما حدثا عرضيا..وإيماءة بلاغة..» دون أن يناقش، أو يبرر لماذا لا يكون هذا الفن عملا له حاضره ومستقبله، مثلما له ماضيه..شأنه شأن أي عمل إنساني لا ينجز من فراغ، وإنما عن دراية مسبقة، وهي تخاطب عن دراية ووعي حاضر الإنسان ومستقبله. فهذا يعني أن هنالك ما استجد وجوبا في الفن الروائي، وأوجب إعلانا بموتها من قِبله، فالرواية بمعناها التقليدي في رأيه ماتت، حيث أصابتها الشيخوخة، وطالها الهرم فاحتضرت، مع أن هذا يخالف الوقائع، فالآداب والفنون هي كائنات حيّة لا تحتضر، وعندما يصيبها الوهن تتجدد، وهذا حال الرواية. غير أن '' ميلان كونديرا '' في موقع آخر يناقض نفسه، ويقرّ ببقاء الرواية لأن وجودها مرادف للإنسانية :« إن الحياة الإنسانية..هزيمة،والشيء الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة هذه الهزيمة الحتمية التي تُسمى الحياة،هو محاولة الفهم،وهنا سبب وجود فن الرواية». في دراسة للدكتور حبيب مونسي بعنوان: '' الرواية الجزائرية بين أمل الانتظار، وخيبة التلقّي'' يوسم الرواية بنظرة سوداوية بقوله: « لا ينكر أحد من الدارسين تدنّي مقروئية الرواية بشكل خطير في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي اليوم في مطلع هذا القرن تعاني خطر الزوال النهائي، والتصفية التي ستجعلها أثرا بعد عين، وترمي بها إلى متاحف الفن، باعتبارها نشاطا إنسانيا أدّى دوره الفني والتربوي، ليفسح المجال أمام نشاطات أخرى أكثر جاذبية تغذيها الصورة، والصوت، بما اكتسبت من قوة التأثير، والجذب.» وهذا الروائي الجزائري الحبيب السائح يؤكد أن الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية تمرّ اليوم بمرحلة صعبة وجد حرجة، تفتقد فيها القدرة على إثبات ذاتها، واللغة العربية تحوّلت إلى لغة خشب، ولغة عنف. وذكر الحبيب السايح في مقاربة حملت عنوان التأسيس لصنعة روائية في الجزائر، قدمها على هامش الصالون الدولي للكتاب بتونس، أن حال الرواية المكتوبة باللغة العربية في الجزائر لا يبعث على كثير من الطموح، قائلا: روايتنا العربية: متشابهة اللغة، متناقلة التيمات حد المماثلة.وأن الروائيين العرب يفتقدون للغة خطاب ثابتة، مع اتساع دائرة الانبهار بالآخر، أي بالرواية الغربية. إن الحديث عن '' موت '' الرواية كجنس فنيٍّ يختلف عن '' موت'' الواقعية كمصدر معرفة للرواية، فإذا كانت إحدى صْفات الرواية هي تمثيل الحياة في تنوّعها كله، فهي لمّا تزلْ وستبقى تعبّر عن الواقع المتغيّر على الدوام، وإن حُجج موتها في وقتنا الحاضر ليست على درجة عالية من الإقناع لدرجة يمكن التأكد من احتضارها، وعليه إذ العديد من النقاد والمتتبعين لفن الرواية يؤكدون على أن مصطلح الواقعية الذي سيطر ذات يوم على النتاج الأدبي والفني كمصدر إلهام في معسكر معين ومنْ اندمج معه قد أفل نجمه بأفول ذاك المعسكر، وما بقي منه غير ما يُوقف المؤرخين، ونقّاد الأدب والفن هو الذي يعاني من الاحتضار نظرا لما اعتراه من التغير والتغيير، إذْ لم يبق من هذا المصطلح إلاّ أنه كان مرتبطا بواقعية أكثر ما تستند إلى العقل، وتزيح المخيال الذي هو المعين لكل عملٍ فنيٍّ، وهو جوهر الإبداع الفني أمّا الواقعية كواقع سيكولوجي، وسوسيولوجي لا ولم ولن تعاني الاحتضار لكونها مرتبطة بحياة الإنسان أينما تواجد، طالما يتحرك في سيرورة تاريخية تربطه بغيره عموديا وأفقيا.. إن الرواية جنس أدبي جميل حيٌّ، والأدب مرتبط بالإنسان في كل زمان ومكان، وهو كمنتج فني ليس منفصلا عن السياق الاجتماعي، والثقافي، والسياسي لهذا الإنسان. في سنة 1969 نُشرت رواية بعنوان '' عشبقة الملازم الفرنسي '' للكاتب البريطاني '' جون فولز '' حاول في هذه الرواية التصدي لمن يقول حينذاك بموت الرواية، وكتب مقالا عن هذه الرواية لفت فيه الأنظار، وذكّر القراء إلى أن الرواية نُعِيَتْ العديد من المرّات، وأثبت في مقاله ذاك إلى أن الرواية لن تموت طالما هي جنس أدبي جميل حيٌّ حياة الإنسان. يقول الروائي والناقد المغربي محمد برادة في تحليل دقيق إلى أن الرواية أخذت أبعادا أخرى غير وظيفة التسلية، وهروب المتلقّي من واقعه البئيس: « إن الاطلاع على مختلف تنظيرات الرواية العالمية نبّه المتعاطين معها إلى أبعاد أخرى، غير التسلية، واستبدال التخييل بالواقع المتجهّم .. ومن ثمّة انتفت علاقة البراءة مع الرواية كتابة، وتلقّيا، وبدا الالتفات إلى إمكاناتها الهائلة في تمثيل المجتمع، ومحاورة الكينونة، واستدعاء المتخيّل الأسطوري، والتاريخي، والاجتماعي.» إذا ما طرحنا للنقاش فكرة احتضار الرواية، من الضروري أن نشخص أسباب هذا الاحتضار إذا سلّمنا به بدءًا ..لا بدّ أن هناك مأزقا للرواية، فأين يكمن هذا المأزق؟ أيكمن في أزمة القراءة؟ أم في أزمة الكتابة؟ هل في المضمون؟ أم في الطبع والنشر والتوزيع؟ أم في عزوف الناس عن القراءة والتثقف، بفعل التفاتهم إلى مشاغلهم اليومية، وصراعهم مع تأمين حاجياتهم اليومية؟ أم إلى تفشي الأمية التي ترتفع نسبها في عالمنا العربي إلى نسب مخيفة؟ إن الرواية اليوم وبغضّ النظر عن المأزق الذي أشرنا إليه سابقا إذا ما نظرنا إليها نظرة شاملة غير محصورة في رقعتنا العربية، فإنها بخبر..بل هناك من يطلق على عصرنا هذا بعصر الرواية، لكونها استطاعت أن تساير كل المراحل التاريخية منذ أن ظهرت إلى الوجود، وأن تعيد إنتاج نفسها، وتتخذ أشكالا مختلفة، وهي تُقرأ أكثر من الأصناف الأدبية الأخرى، لأن شكلها، ومرونتها يجعلانها قابلة للحياة أكثر إذْ لتضمن الشعر، والتاريخ، والسياسة، والفكر، والصراعات، والوجدانيات،والاقتصاد ، وفي نفس الوقت تبقى رواية. هاجس البحث عن الجديد ملازمٌ للإنسان، وبدون ذلك لا يكون هناك تطوّر، ولا إبداعٌ؛ فالرواية تكيّفت مع كل المراحل التاريخية، سايرت الحداثة فخضعت للعديد من التجريب في اللغة، والسرد، والأسلوب، والتشخيص وغيرها من مكونات العمل الروائي، وفي مرحلة ما بعد الحداثة استمرّ التجريب، ثم العودة إلى الأشكال التقليدية، والتركيز على عنصر الحكاية من جهة، واستكشاف أساليب سرد جديدة من جهة أخرى. إن الرواية تضمن لنفسها الديمومة عبْر الزمن، فهناك من نصّبها أميرة على عرش الأجناس الأدبية لقدرتها الهائلة على الاستيعاب، وقدرتها أيضا على محاكاة الحياة، وتجسيد ذلك الحراك الإنساني المختلف المشارب، والمتعدد الغايات، ونقل ذلك في فصول ومشاهد روائية جميلة..تكون الرواية جزءا من الحياة، أو تكون الحياة فصلا من الرواية، أو أجزاء من الحياة مشاهد من الرواية، يأخذ الروائي على عاتقه إعادة تبويب، وترتيب الأحداث فيها استنادا إلى ثقافته، وبنيته الفكرية، وفلسفته في الحياة، ونظرته إلى الكون. يتبع...