بعد حصولي على التقاعد المسبق، أصبح لدي ما يكفي من الوقت لتركيز الملاحظة على المجتمع الجزائري الحالي من حيث تنظيمه وكيفية تصرفه، فراعني ما توصلت إليه من خلال الملاحظة المستمرة وأردت أن أنسى ذلك، لكنني لم أستطع وقررت بصعوبة كبرى أن أبوح به إلى الجمهور العريض لعله يتوصل إلى أنني مخطئ، واستنتاجي هذا لم يكن سوى تصور أتى بعد إحباط شديد. أظن إلى حد اليقين أن المسؤولين على شأننا العام ينظرون إلينا ويسهرون على تنظيمنا وتسييرنا، كما لو كنا قطيعا من الأغنام وبعض الحيوانات الأليفة الأخرى، ونحن بدورنا نتصرف طبقا لنظرتهم، ومما يزيد في قناعتي هذه اختصاصي في المجال الفلاحي لكوني مهندسا زراعيا. الجزائر أصبحت ضيعة شاسعة بها مسؤولون كبار هم أقرب إلى ملاك القطيع، الذي هو نحن، أو ما يسمى بالشعب هؤلاء الملّاك يوظفون أعدادا كبيرة من الحراس بعد تكوينهم وتدريبهم. الملّاك يسهرون على توفير المسكن والمأكل والدواء، وبعض الترفيه والتدريب والأمن لهذا القطيع ويستعملون للسيطرة عليه عددا هائلا من الحراس المدربين والمنتقين حسب مقاييس علمية صارمة، يتولون حراسته حراسة مشددة لكي لا يخرج عن الملّاك الحاليين ويذهب إلى ملّاك آخرين ليسوا جديرين بهذا الملك، كما يحرسونه من الذئاب التي يمكن أن تأتي من خارج الحظيرة وتقضي عليه. ولعلني تأكدت أكثر من أن الشعب قطيع والشرطة حراسه بعد المسيرة الأخيرة لأفراد الأمن، فبأن هؤلاء من الصنف الآدمي ساروا في شوارع الملاك إلى غاية مقر المالك الأول ولم يعترض سبيلهم أحد، وهل يخاف آدمي من آدمي آخر مثله؟ بينما يأمر الملاك حراسهم لمنع كل المسيرات التي أتت من بعد، باعتبار أن القطيع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم بمسيرات آمنة، لأن ذلك يتنافى ببساطة مع نوعه، فيمكن أن يدمر ما وجد أمامه، ويمكن أن يدوس آدميين، وخاصة الملّاك منهم، كما أن القطيع لا يمكن أن يعرف من يسيره وإلى أين يسير به، ولعل أهم تخوف عند الملاك هو ضياع قطيعهم، بحيث يستولي عليه ملاك آخرون يتربصون به، وخاصة ما يطلق عليه اسم المعارضة. ومما يؤكد أن حكامنا ينظرون إلينا فعلا كقطيع من الأغنام، هو كيفية تخويفنا من بعض الأعداء من خارج الحظيرة، فيصورون لنا الكائن المسمى ببرنار ليفي ذئبا متوحشا جائعا، ما أن يدخل حظيرتنا حتى يبدأ بتشتيتنا أولا ثم أكلنا بعد ذلك، ولهذا يجب منعه من الاقتراب من الضيعة، فالمالك يتصور فعلا أننا قطيع لا يمكن أن يقاوم هذا الذئب. ملاكنا يفعلون كل ما في وسعهم من أجل منعنا من الاختلاط بالآدميين، باستثناء البعض كالصينيين القريبين منا من حيث التنظيم الاجتماعي، وذلك لكي نبقى في حالة القطيع، فيعرقلون السياحة الكثيفة ويحرسوننا عندما ننتقل خرج الضيعة ويمنحوننا 130 أورو عند خروجنا منها لكي لا نتمكن من الاتصال والانتقال بحرية. ولعل مصيبتنا الأكبر هي أن ملاكنا أغنياء ولا يحتاجون إلينا إلا لأمر واحد، هو استعمالنا لكي يثبتوا به صفة مربي الأغنام، وهي صفة تخول لهم التواجد على الساحة الدولية، كما تسمح لهم بعضوية الأممالمتحدة وما ينجر عنه من مزايا. فلو كانوا محتاجين إلى لحمنا وحليبنا وجلدنا، لكانت عنايتهم بنا أحسن بكثير مما عليه الآن، ولذلك يمنحوننا أكلا سيئا، فحليب الشكارة المتناول من أغلبيتنا يمنع استهلاكه للإنسان في فرنسا ولا يوجد في تونس، ومن استورد البطاطا الموجهة للخنازير كان يؤمن فعلا بأننا قطيع. وتتأكد نظرة حكامنا إلينا على أننا قطيع في المسكن، فيفكرون فقط في إيوائنا بين الجدران الإسمنتية دون محيط ثقافي وترفيهي ورياضي يليق بالآدمي في 2014. وحتى الرياضة، فهم يعتنون عناية فائقة ببعض الرؤوس من القطيع ليتباهوا بها أمام العالم. ولعل ما يزعج ملّاكنا هو ما يفرض عليهم من تعليمنا، ولذلك فهم يحرصون على أن يكون بدون فائدة لنا وإبعاد أبنائهم عن تعليمنا ومخالطتنا لكي لا يفقدوا صفتهم وينتمون إلى القطيع. ولعل العراك بين السلطة والمعارضة يدخل في إطار من يمتلك القطيع المستسلم. كنت أتمنى فقط لو أن ملّاكنا فقراء حتى يعتنون بنا أكثر في المأكل والمشرب والدواء، لأنهم سوف يحتاجون إلى لحمنا وصوفنا وجلدنا وحليبنا. ثورة الياسمين في تونس كانت تحت شعار “حرية، شغل، كرامة وطنية”، وثورتنا كانت تحت شعار “الزيت والسكر”... والفرق شاسع. [email protected]