عقد بيت الوادي للدراسات والنشر مؤخرا ندوة نقدية حول الكاتب الكبير يوسف إدريس، في مناسبة ذكرى رحيله الثانية والعشرين، تحت عنوان “استعادة يوسف إدريس في ذكرى رحيله”، حيث يظل القاص الراحل واحدا من أهم مؤسسي فن القصة العربية الحديثة، وكان أول من ساهم في تأسيس الواقعية في القصة القصيرة، بعد أن أخرجها من مساحات كبيرة من الرطانة اللغوية التي ارتبطت بنماذج بلاغية من عشرات الكتاب الذين تعاملوا مع هذا الفن باعتباره حالة وعظية وإنشادية، فأسرفوا في المحسنات اللغوية والاستخدامات البلاغية التي تقف في وجه التطور السردي والحكائي. فضلا عن ذلك، فقد كان تحديث يوسف إدريس لهذا الفن مرتبطا بموجات حداثية مرتبطة بدورها بتطورات سياسية ومجتمعية، جعلت من الهم الإنساني ومناخات الحرية التي صاحبت ثورات التحرر ذات الطابع الاشتراكي إنجيلا جديدا في الكتابة الإبداعية، وقد نالت أعمال إدريس إجماعا واسعا عربيا وعالميا وكان واحدا من المرشحين لنيل جائزة نوبل، إلى جانب الراحل نجيب محفوظ. شارك في الندوة الناقد الدكتور يسري عبد الله، والكاتب الدكتور أحمد الخميسي، الذي جاءت كلمته موجزة، أشار خلالها إلى الدور الرائد والمؤسس للكاتب الكبير يوسف إدريس، وسعادته للعلاقة الإبداعية والإنسانية التي جمعتهما، قال: “يتذكر الجميع يوسف إدريس؛ الفلاح طويل القامة بوجهه الصريح ونافورة الحماسة التي تعلو بالأفكار الجديدة، سريع التوهج، تمتلئ أحاديثه بالصور والإشارات، وتتدفق منه الموهبة وحب الحياة. يعرف الجميع الآن أكثرمن أي وقت مضى قيمة ذلك الكاتب العملاق، وفداحة الخسارة التي أصابتنا بموته المبكر. ويذكرنا رحيل يوسف إدريس بما قاله أنطوان تشيخوف ذات مرة، بأن الموت يوارى نصف الفنان فقط، أما نصفه الآخر فيظل حيا في إبداعه الذي تركه لنا”، ثم كانت المداخلة الرئيسية في الندوة للناقد الدكتور يسري عبد الله أستاذ الأدب الحديث، جاء فيها: “تمثل استعادة يوسف إدريس استعادة لقيم الثقافة الوطنية في أشد تجلياتها خلقا وابتكارا، وبما يعني أن ثمة سؤالا جوهريا يمكن أن ننطلق منه ونحن نحتفي بالذكرى الثانية والعشرين لرحيله: لماذا يبقى يوسف إدريس في الذاكرة الأدبية العربية؟ وربما بدت عشرون عاما أو أكثر فرصة إيجابية للإجابة عن هذا التساؤل المهم، بحيث يعاد الاعتبار إلى يوسف إدريس بوصفه مؤسسا ذا تصور مختلف للقصة القصيرة، ومطورا لها في آن، ومتجاوزا بها ما صنعه الرواد: الأخوان عيسى وشحاتة عبيد، محمود طاهر لاشين، محمود تيمور، وصولا إلى الرائد المبدع يحيى حقي. ويضيف يسري عبدالله؛ بدأ يوسف إدريس ابن أوانه بامتياز-، معبرا عن جوهر لحظته السياسية والثقافية، قابضا وببراعة على زمام الحكاية، مدافعا من خلالها عن ناسه من البسطاء، المنسحقين والمهمشين، فبدت كتابته- وباختصار صوتا للمقموعين: “فلاحون، أجراء، عمال تراحيل، موظفون برجوازيون/ طلبة، مناضلون، نساء حائرات ونساء مقموعات،…إلخ”، ومن ثم أصبحت كتابة يوسف إدريس تاريخا لمن لم يقف عندهم التاريخ، من هنا يؤكد عبد الله أننا كنا أمام أبطال هامشيين طيلة الوقت، متواضعي الحال والقدرات، أبناء لواقع بالغ القسوة ولتلك الضرورة الحياتية المعاشة، يبني عوالمهم ذلك الخيال الجديد لكاتب فذ، مختلف ومغاير، قرر منذ مجموعته القصصية الأولى “أرخص ليالي” أن يكتب عن شخوص منسيين، يمثلون في جوهر الحكاية القصصية متنها، مثلما يمثلون تماما لكل الكتاب الطليعيين والتقدميين في العالم، ملحا للأرض وللحياة معا، من هنا سنجد حكايات عن عبد الكريم الفلاح المعدم الأجير، رمضان أبو سيد، الحفني أفندي مدرس الكيمياء التعيس، وغيرهم كثيرون، بشر يعيشون على الحافة، مأزومون ومرتبكون في آن، لكنهم أبناء اللحظة الفائتة والأمل المراوغ، بشر من أولئك الذين يعبؤون لياليهم بوهج الحكايات الساخرة، ونفسها الذي لا ينقطع، أو يلين. انطلاقا من الخصوصية الثقافية المصرية، وتعبيرا عن الوجدان الجمعي للأمة المصرية، كتب يوسف إدريس نصه القصصي، فيختار لحظته السردية، يحدد أسلوبه ويختار لغته وطرائقه الفنية، فينحاز للعامية في حواراته إمعانا في إضفاء مزيد من الواقعية على الحدث السردي، ودفعا بالنص إلى أفق الحياة اليومية بناسها المنسيين وعراكها المستمر، هوامشها المختلفة وطزاجتها الدائمة. من المكون المحلي المصري إذن يبدأ يوسف إدريس وينتهي كاتبا مجيدا مقتصدا في سرده، موجزا ومكثفا في آن. لقد كان إدريس إذن معنيا أكثر بكشف التناقضات الاجتماعية الفادحة في المجتمعات المغلقة، وتعرية ذلك المسكوت عنه داخلها، نراه هنا في “بيت من لحم” مثلما نراه في روايته البديعة “الحرام”، واللافت أنه لم يكن يصدر أحكاما قيمية بالية تدين الناس، أو تصنفهم وفقا لرؤية أحادية للعالم، بل كان يدرك تماما ذلك المنطق اليمقراطي للسرد من جهة، وحركة الواقع المؤثرة في حركة الشخوص والمتجادلة معها في آن، من جهة ثانية، وهنا يؤكد الدكتور يسري عبدالله أن شخوص يوسف إدريس معذبون بذواتهم وواقعهم معا، لا تملك سوى أن تتعاطى معهم وفق منطق الحاجة، مثلما لا تملك أيضا سوى أن تحمل ذلك القدر من الأسى حيال أوضاعهم الاجتماعية البائسة، والتي تتمثل في الثالوث القاتل: الفقر، الجهل والمرض.