هي واحدة من بين العديد من الفتيات اللواتي يعانين الإعاقة بصمت في كنف أسرهن، بين خلانهن أو بين جدران بيوتهن في كنف الطغيان،الحسرة والظلم أو العناية، المساندة والمحبة ، مدينة البريئة ذات 12 سنة المرحة والضحوكة التي تحب الحديث وكل ماله علاقة بالدراسة ونهل العلم، لأنها تتنفس العلم على حد تعبير صديقتها “إيناس" . إعاقتها قدرت بعد مرضها اقتربنا من “مدينة” التي تدرس في الطور الثاني متوسط كمحاولة منا لمعرفة جوهر هذه الفتاة الطموحة والمحبة للحياة. في البداية تحدثنا مع السيدة ليلى والدة “مدينة”، وحاولنا أن نستفسر منها عن تفاصيل إصابتها بالإعاقة فأجابتنا بقولها: “إن مدينة لم تولد بهذه الإعاقة وإنما أصيبت بها بعد ولادتها بمدة قصيرة لانها ولدت قبل الشهر التاسع ب35 يوما، وكان وزنها آنذاك يقدر ب2.200 كغ، إلا انه وبعد إصابتها بالحمى المؤدية إلى انخفاض درجة الحرارة فقدت وعيها وقل وزنها بشكل ملحوظ ليصل إلى 1.500كغ، وعقب تدهور صحتها اضطررنا إلى إبقائها في المستشفى لمدة أسبوعين حتى عادت إلى وزنها الطبيعي، كما أنها أصبحت تقبل الحليب بعدما كانت ترفضه وقد قدر الله عز وجل أن تصاب بالإعاقة نتيجة مرضها هذا”. اجتياز “مدينة” لامتحان شهادة التعليم الابتدائي والتحاقها بالمتوسطة ومع بلوغها سن السادسة الذي يتوجب فيه على كل الأطفال الالتحاق بالمدرسة، سعت أمها ووالدها لتسجيلها في إحدى المدارس الابتدائية، وبالفعل تمكنا من تحقيق ذلك وتمكنت ابنتهما من الدراسة كغيرها من الأطفال رغم إعاقتها التي كانت ترهن تنقلها بالكرسي المتحرك، إلا أن المشكل الوحيد الذي كان يعيقها تمثل في أن عدم قدرتها على التحكم في حركات جسمها التي كانت تتسم بالعشوائية قد أثرت سلبا على قدرتها في الكتابة والقراءة، مادفعها إلى الاعتماد على الحفظ المجرد كسبيل وحيد أمامها لتلقي الدروس وفهمها، خاصة وأنها تتمتع بذاكرة قوية والاستيعاب الجيد حسب ما أكده أساتذتها لنا. وعندما سألنا والدتها عن كيفية اجتيازها لامتحان شهادة التعليم الابتدائي، أجابتنا بأنه تم تخصيص أستاذين لها يقومان بطرح أسئلة الاختبارات عليها ومن ثمة تدوينها، ليكلل تعبها واجتهادها هذا بحصولها على الشهادة بمعدل 10 /8.60 حسب ما صرحت به “مدينة” لنا. وبعد هذا النجاح الذي أبهج قلوب محبيها، التي إذا اقتربتم منها لا يمكنكم إلا أن تحبوها، عمد والداها إلى إلحاقها باكمالية “الأمير خالد” لمتابعة دراستها، أين حظي طلبهما هذا بقبول مدير المتوسطة الذي وفر ل«مدينة” كل التسهيلات اللازمة التي تمكنها من التركيز على دراستها، كما انه سمح لوالدتها بالبقاء داخل المتوسطة في الفترتين الصباحية والمسائية من اجل تلبية الاحتياجات الخاصة لابنتها. وعندما اقتربنا من بعض أساتذتها بمجرد أن ذكرنا اسمها حتى رسمت على محاياهم ابتسامة عريضة تعكس الكثير من المعاني التي لا يمكن للكلمات أن توصلها، بحيث أشادوا بأخلاقها، ذكائها، انضباطها، تفانيها وحبها للعلم من خلال مشاركتها في المناقشة وطرح الأسئلة، كما أنهم لم ينفوا من جهة أخرى قيامها ببعض التشويش كغيرها من التلاميذ. وأكثر ما لفت انتباهنا لدى حديثنا معهم هو عدم تحدثهم عن إعاقتها كلية، ما يؤكد لنا أن “مدينة” قد تمكنت من تغيير نظرة الآخرين إليها من خلال مثابرتها وتحديها لإعاقتها، التي لو أنها استسلمت لها لكانت حبيسة لها ولذاتها المنكسرة. هذا بالموازاة مع تأكيد كل من أستاذة اللغة العربية، اللغة الفرنسية والتربية الإسلامية على تميزها في الاستيعاب الجيد للدروس، وحرصها المستمر على تحقيق التفوق من خلال مواظبتها على مراجعة دروسها. كما أشار أساتذتها إلى انه عندما تحين فترة الفروض والامتحانات يتم تخصيص يوم لها بحكم انه يتعين عليهم طرح الأسئلة عليها بصفة شفهية، ما يستغرق لربما وقتا أطول من الوقت المقرر، إلا أن النتائج التي تحققها تكون دائما الدواء الشافي، بحيث أنها تعد من بين الأوائل على مستوى المؤسسة بحصولها على معدل 20 / 15.38 . سلوكها في البيت أما عن “مدينة” في البيت، فهي تسعى دائما إلى الاعتماد على نفسها دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين، وان كان ذلك يتطلب منها بذل الكثير من الجهد على حد تعبير والدتها، بحيث أنها تحاول دائما التنقل في البيت دون الاستعانة بالكرسي المتحرك من خلال “الحبو” على الأرض، كما أنها تحاول تناول الطعام وارتداء ملابسها لوحدها، مؤكدة في نفس الوقت على طبعها النقاشي بحيث أنها كثيرة الجدال وتحب الوصول إلى إقناع الآخرين بأفكارها وأرائها من خلال إلحاحها الشديد، فضلا عن الجدالات الخفيفة التي تكون بينها وبين أخيها الوحيد، بحيث تصر “مدينة” على رأيها وتتشبث به دون أي تنازل، هذا ما يجعلها عرضة للعقاب والتأنيب غالبا. كما أكدت لنا والدتها بأنها وعلى الرغم من الإعاقة التي تعاني منها إلا أنها تحرص دائما على أداء صلاتها في وقتها دون أي تكاسل. أما عن هواياتها المفضلة فقد ذكرت “مدينة” ل«السلام” بأنها تحب الرسم وكتابة الشعر باللغة الفرنسية، لان كتابة الشعر حسب ما ورد في بعض أبيات شعرها يدفعها إلى التحليق في الفضاء مع طير اللقلق” المفضل لديها، كأميرة صغيرة تجوب به الحدائق والقصور لتلاقي الغيوم والنجوم. كما أنها تحب الرقص الكلاسيكي الذي تؤديه مع والدها في البيت،بالإضافة إلى أنها تحب قططها الصغيرة، ألعاب الكمبيوتر الخاصة ب«باربي” و«بلاي3”، فضلا عن موسيقى “البوب” وحبها للحديث مع زملائها وأصدقائها من الجنسين، فهي بطبعها ليست انطوائية. “مدينة” بين الأحلام والأماني عندما سألناها عما تريده أن يتحقق لها مستقبلا، أجابتنا بأنها تتمنى السير على قدميها كغيرها من أقرانها، لتصول وتجول بين أتراب الأماكن والحدائق، لتتمكن من تحقيق حلمها في أن تصبح بيطرية لشغفها الكبير بحب الطبيعة والحيوانات، كما أنها لم تتوقف للحظة عن الحديث عن دعم والديها لها من خلال توفير الإمكانات اللازمة المصحوبة بالتشجيع المستمر، فكل طموحاتها قد عكست من خلال اسمها، لأنها المدينة بتحديها و صدق أمانيها. وهي قد وافقت بذلك تعريف “إبراهيم بن موسى” الأستاذ في علم الاجتماع للفرد المعاق، بحيث انه اعتبر الشخص المعاق هو ذلك “الشخص الذي يعاني من مانع حال دون قيامه بكل الوظائف التي يطلبها منه المجتمع، سواء كانت مهنية أو تربوية قائمة على العلاقات الاجتماعية”، أي كل ماله علاقة بالوظائف والأدوار الاجتماعية التي ينتظر أن يقوم الفرد العادي بتأديتها داخل المجتمع. و«مدينة” حققت كل ما ورد في هذا التعريف من خلال تجاوزها لإعاقتها، تأديتها لوظيفتها كنشء فعال في المجتمع، وإقامتها لمختلف العلاقات الاجتماعية في محيطها التربوي من زمالة وصداقة، وفي محيطها المجتمعي مع أبناء حيها وأقربائها. فهي قد تمكنت -حسب ما ذكره الأستاذ- من الاندماج في الحركة الاجتماعية التي يعد العمل والدراسة إحدى ركائزها، وهذا ما سيمهد لها الطريق مستقبلا لفرض نفسها في المجتمع عمليا. فهي مثال يجب أن يحتذي به الفرد المعاق وخاصة في مراحل حياته الأولى، بحيث انه يجب عليه التحلي بالصبر، المثابرة والإرادة لكي يتمكن أولا من تغيير نظرة المجتمع إليه، ومن ثمة إثبات ذاته ليصل في الأخير إلى فرض نفسه في مجتمعه كفرد فاعل وفعال، إلا أنه لا يمكنه أن يصل إلى ذلك إلا بعد تمكنه من تغيير نظرته الخاصة لذاته. ف”مدينة”، قد أرسلت من خلال صبرها واجتهادها رغم إعاقتها الكلية رسالة تحث فيها كل المعاقين على التحلي بالإرادة المستميتة والتجلد بالصبر، حتى يظل الفرد كجذع النخلة يتمايل مع مهب الريح ولا ينكسر، كما يجب عليه أن لا يدع نفسه في صراع بين ذاته المنكسرة ونظرة المجتمع إليه، لأنه هو من سيحدد أسلوب تعامل الآخرين معه، فإما أن يكابرها ويتخطى شعوره بالنقص والاختلاف وإما أن ينغمس في غمار السلبية، المآسي والتحسر ليبقى حبيس وحدته، خجله بنفسه وانطوائه عن المجتمع الذي يتواجد فيه. فلو أن “مدينة” رضخت لحالتها وانغمست فيها لكانت اليوم مجرد رقم من بين أرقام عدد سكان الجزائر العاصمة، غير أنها لم ترض لنفسها هذا الواقع الذي يكفن صاحبه بالحزن والألم،بل رسمت لنفسها حياة عادية ملؤها الفرح، الأمل والطموح بعيدا عن كل أنواع هذه السلبية والجحود، مع ضرورة التأكيد على أن نجاحها وتفوقها هذا لم يكن عملا فرديا وإنما جاء كنتيجة حتمية لتكاتف الآمال والجهود من قبل “مدينة” بصفة أساسية، أسرتها، أصدقائها، أساتذتها،المسؤولين وكل المحيطين بها، هذا ما يؤكد أهمية ودرجة التأثير القاعدي الذي يحدثه المجتمع في أسلوب تسطير الفرد لمستقبله.