لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان بنعم عدة وأمره أن يسخرها في طاعته تعالى، وفيما ينفعه في حياته الدنيا وفي الآخرة، ومن هذه النعم نعمة الوقت التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على عباده في قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33] بل أقسم عز وجل بأجزاء من الوقت في مواطن عدة فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2] وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1-2] وقال: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] وقال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:1-4] فأقسم ربنا عز وجل بهذه الأوقات حتى نعلم قيمتها ونصونها وتحفظها ولا نعمل فيها إلا خيرا. وربط الله سبحانه وتعالى في شريعته غالب العبادات بالوقت، فالصلوات الخمس لها أوقات معينة لا تصح قبلها ويحرم تأخيرها عنها إلا لعذر، وكذلك صوم رمضان وحج البيت والزكاة وغير ذلك من العبادات. وينبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية على استثمار الوقت بما ينفع، ويحذر من إضاعة الأوقات سدى فيقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) (صحيح البخاري 5/2357) ويشير إلى أن الأسئلة الأربعة التي يسأل عنها العبد يوم القيامة اثنان منها يختصا بالوقت، فيقول عليه السلام: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه) (المعجم الكبير 20/60) وكان استثمار الوقت إحدى نصائحه صلى الله عليه وسلم وضمن مواعظه لأصحابه فقال: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) المستدرك 4/341. ولقد حققت الأمة الإسلامية أمجادها التي خلدها التاريخ عندما اتبعوا هذا النهج الرباني والهدي النبوي فأعطى المسلمون الوقت قدره ولم يضيعوه، واستحقت أمتنا أن تكون أمة قيادة وريادة حينما اهتمت بأوقاتها وعلمت أنها مسئولة عنها، فإن علماءنا الذين نعتز بهم كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك الشافعي وأحمد ومن بعدهم من علماء الإسلام في جميع المجالات ممن خلفوا وراءهم تراثا عظيما ضخما رغم قلة الأدوات المتاحة في عصرهم، إنما بلغ هؤلاء العلماء الغاية في العلم والإنتاج العلمي بما أولوه من اهتمام بالوقت. فهذا ابن الجوزي رحمه الله أحد علماء الإسلام كان يأتيه الناس ليتجاذبوا معه أطراف الأحاديث، فكان يغتنم وقته وهو يحدثهم في أن يعد أقلامه للكتابة لئلا تضيع هذه الدقائق. فبحفاظ العلماء والولاة وموظفي الدولة وأفراد المسلمين في هذا الزمن على الوقت واستثماره استثمارا مفيدا حافظ المسلمون الأوائل على توجيهات ربهم، طبقوا تعاليم دينهم وأقاموا أحكام شريعتهم، فأسسوا للدنيا حضارة شامخة ومجدا خالدا، ولذلك لا نستغرب اليوم عندما نسمع أو نقرأ أن أحدهم ألف من الكتب ما يربو على أربعمائة كتاب أو أكثر في مختلف العلوم مما يعكف العالم الآن على دراستها والتزود منها. قال الحسن البصري: (لقد أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد حرصا منكم من أموالكم). هؤلاء هم الذين حافظوا على أوقاتهم فكانوا يستغلونها لسيرهم في الطريق إلى الله، ويغتنمون كل لحظة من أعمارهم في طاعته ونفع مجتمعهم. ولم يعرف التاريخ أمة من الأمم اهتمت شريعتها بالزمن وحثت على اغتنامه قبل ضياعه مثل الأمة الإسلامية، وذلك لأن الزمن هو الحياة، وهو العمل والإنتاج، وهو التطور العلمي في تشييد الحضارات وازدهارها. ولذلك يجب أن يحذر مسلمو هذا العصر من إضاعة الوقت، وليحرصوا على العمل بجد، خاصة في أخصب أيام عمرهم وهي الشباب وعلى الإنسان أن يحاذر التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى الغد، فإن سوف جند من جنود إبليس، وإن الإنسان لا يضمن أن يعيش إلى غد، وإذا عاش فلا يضمن أن يخلو غده من الصوارف والشواغل. ويجب على المسلم أن ينقل واجباته نحو وقته من دائرة المعرفة إلى الواقع والتنفيذ، فأول ما يجب على المسلم تجاه وقته هو المحافظة عليه والاستفادة منه، كما يحافظ على ماله بل أكثر من ذلك، فتقسيم الوقت وتوزيعه للاستفادة منه أمر لازم على كل مسلم، وذلك بضبطه وتنظيمه واستثماره فيما يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع. إن أول مدارج الإصلاح والانتظام في صفوف الأمم القوية العاملة الجادة هو القدرة على ضبط أنفسنا وأبنائنا، والتحكم الدقيق في ساعات عمرنا، حتى يتحول مجتمعنا إلى مجتمع منضبط عامل منتج يحسن توظيف قدراته ومواهبه ومؤهلاته وكفاءاته، فاللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، وأعنا على القيام بواجب الوقت على الوجه الذي يرضيك عنا.. آمين.