كثيرا ما ننسى أنّنا في هذه الحياة الدّنيا نخوض غمار امتحان يستغرق أيام حياتنا كلّها، بل ويستغرق كلّ ساعاتها ولحظاتها، امتحان يبدأ من لحظة البلوغ وينتهي عند لحظة صعود الروح إلى بارئها.. امتحان إمّا أن ننجح فيه ونحظى بالسّعادة الحقيقية في هذه الدّنيا وبالفلاح والفوز عند لقاء الله، وإمّا أن نخسر فيه ونخسر معه أنفسنا ونعيش الحياة الضّنكى التي تُظلم معها قلوبنا وأرواحنا وتتشتّت همومنا، ثمّ تكون الخسارة الأكبر عند لقاء الله، يوم يقول الواحد منّا ((يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ))، يوم يقول المقصّر في دينه الذي قضى أيام حياته لاهثا خلف متع الحياة الدّنيا، ناسيا الموت والبعث والنشور والحساب، يقول عندما يدرك أنّ الحياة الحقيقية ليست تلك التي غادرها إلى غير رجعة، إنّما هي الحياة التي هو مقبل عليها، يقول: "يا ليتني قدّمت لحياتي".. يا ليتني قدّمت أعمالا صالحة لهذه الحياة الخالدة التي أنا مقبل عليها؟ يا ليتني حافظت على الصّلاة.. يا ليتني حافظت على تلاوة كلام الله.. يا ليتني تصدّقت وأنفقت لبناء بيوت الله ولإعانة الفقراء والمساكين.. كان أقاربي وجيراني يحجّون ويعتمرون، بينما كنتُ أنا مشغولا بهموم الدّنيا، مهووسا بتبديل ألوان وأنواع السيارات، وتكديس الأموال التي تركتها من خلفي لوثتي ينعمون بها وأحاسب عليها. كلّنا نخوض امتحانا في هذه الحياة؛ أعاننا الله للفوز فيه بوازع دينيّ يؤنّب كلّ واحد منّا من حين لآخر على تفريطه وتقصيره وغفلته، وبكتاب هادٍ هو القرآن الكريم، يداوي القلوب والأرواح من الأمراض التي يسبّبها التعلّق بالدّنيا.. وفي المقابل، ابتلانا الله سبحانه بالشّيطان الذي أقسم عند بدء أوّل معركة مع أبينا آدم –عليه السّلام- أنّه سيضلّنا ويغوينا ويأخذ بأيدينا لندخل معه إلى جهنّم عياذا بالله، ((قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين)). كم قرأنا وكم سمعنا هذه الآية وغيرها من الآيات التي تتحدّث عن العهد الذي أخذه إبليس على أن يأخذنا معه إلى جهنّم ويشمت بنا ويقوم خطيبا فينا في نار جهنّم ويتبرّأ منّا ويقول: "إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"؟ كم قرأنا وسمعنا هذه الآيات، لكنّ الواحد منّا لا يفكّر أنّ عدوّه إبليس ربّما يكون قد تمكّن منه وأصبح يقوده كلّ يوم حيث يريد، ويحرّكه كما يحرَّك الخاتم في الأصبع.. إنّه منتهى الخسران أن يفرح بنا الشّيطان ويشمت بنا وهو يرانا نطيعه ونتّبعه ونرضخ لوساوسه، ونخسر معركتنا معه ونرفع الرّايات البيضاء بكلّ سهولة. أخي المفرّط، وكلّنا مفرّطون ومقصّرون، ماذا لو عددت معي كم أمرا للشّيطان تطيع كلّ يوم.. في كلّ ليلة يقول لك الشّيطان: نم فإنّ أمامك ليلا طويلا، ويضحك ملء شدقيه حينما يوسوس لك بالنّوم عن صلاة الفجر فتطيعه وتمتثل أمره، وتستيقظ عند السّابعة صباحا مثقل الرّوح مظلم القلب، كأنّك تحمل جبال الدّنيا على ظهرك.. ينسيك أذكار الاستيقاظ وأذكار الصّباح، ثمّ يسوّل لك تأخير صلاة الظّهر، وينسيك قراءة القرآن، وينسيك أذكار المساء.. تنسى كلّ هذا وتقضي يومك لا شيء يشغل بالك غير الدّنيا، لا ذكر ولا شكر ولا دعاء ولا استغفار.. يسوّل لك أن تهجر أمّك وأباك لأجل الدّنيا، ويسوّغ لك مخاصمة أقاربك وجيرانك لأجل حظوظ فانية، وهو في كلّ ذلك يصوّر لك بأنّك أنت المظلوم دائما ويبرّر لك أخطاءك.. يغريك بإطلاق بصرك بالنّظر إلى النّساء والعورات في الشّوارع وعلى شاشة التلفاز والحاسب والهاتف، فتطيعه وتُتبع النظرة النظرةَ وتنسى أنّ الله يراك.. يُغريك ويزيّن لك غيبة إخوانك ويُظهر لك عيوبهم ويخفي عنك عيوبك، ويجعلك تنكر منهم ما هو موجود فيك.. يسوّل لكِ أيتها المؤمنة التفنّن في الحجاب ويغريك بلبس ما يعجب النّاس، ويتدرّج معك في كلّ مرّة من الضيّق إلى الأضيق، فتطيعينه وتعصين مولاك الذي أرادك أن تكوني عفيفة أبية، تُخفين زينتك وتدّخرينها لزوجك.. تعصين مولاك الذي حذّرك من اتّباع خطوات الشّيطان، الشّيطان الذي جعل تعرية أبناء آدم من أهمّ أهدافه، ((يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون)).. يغريكِ الشّيطان بمتابعة المسلسلات وسماع الأغاني التافهة التي تُعلّق قلبكِ بالدّنيا وتجعل همّك هما واحدا هو المظاهر وكفى، لا همّ لك ولا همّة في الصّلاة والقرآن والذّكر والدّعاء، ولا اهتمام لك بحقّ الزّوج في الطّاعة والتزيّن، ولا بتربية الأبناء وتأديبهم. إنّها أحوال كثيرة، تبيّن أنّنا ربّما نتّجه لخسارة معركتنا مع عدوّنا الذي يتربّص بنا ولا يهدأ له بال ولا ييأس أبدا حتى نرحل من هذه الدّنيا، حسد أبانا آدم ولا يزال يحسدنا ويتمنّى لنا خسارة الدّنيا والآخرة؛ فهل يليق بنا أن نستسلم له، ونقرّ عينه ببعدنا عن ديننا واتّباعنا لأهوائنا ورضوخنا لنزغاته ونزغات أوليائه؟. حريّ بنا أن يراجع كلّ واحد منّا حساباته، ويراجع حاله، ويتّخذ قراره بأن يستأنف معركته مع عدوّه، ومع نفسه التي تلين لوساوسه، ويستعين عليه بالله الذي يعلم السرّ وأخفى، ويسعى في مخالفته كلّما أمره بمعصية مولاه، أو وسوس له بالتّكاسل عن طاعته وعبادته. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) (فاطر، 5- 6).