ساعات فقط قبل أن أترك وهران نحو العاصمة..اشتد بي الشجن.. لست أدري كيف وجدتُني أسير في شارع العربي بن مهيدي تحت رذاذ مطر خفيف، أمرّ. أرفع وجهي نحو شرفات بيت عمتي (يمينة) تحتها تماما يتربع مقهى جميل إنه "مقهى كليشي". تذكرتُ وأنا صغيرة، كم كنت أعبر ممراته التي تحتل الرصيف قبل الصعود إلى بيت عمتي . - إنه هو! على مقعد ما من المقهى البهيج جلس (ألبير كامو) ابن عاملة النظافة صاحب كتاب الطاعون . فلم يكن من طبقة الكولون الثرية. إنه ابن مدينة دريعان جارة مدينة عنابة أو بونة، وتحت سقف "لالة بونة" حيث ينام قليل من سانت أوغستين.. - إنه هو.. إنه ألبير كامو.. عيناه مكتظتان بدهشة البحرالمتوسط. فمنه غٓرف الجمال و السعادة و شقاء التأمل في التاريخ وفي الإنسان. كم أفهمه.. فقد هاجروأقام بالعاصمة، وسكن حي بلكور(لَعْقيبة)، مترددا على شاطي "لاصابليت" بالحامّة، إلا أن وهران ظلت تشده بطريقة مثيرة. أواصل سيري تحت رذاذ مطر سماء وهران، يرتسم ظل ألبير كامو في كل مكان. أتذكر أنه منذ أن بدأت النازية في ملاحقة المثقفين الثوريين، لم يجد كامو سوى مدينة سيدي الهواري وسانتا كروث ليقيم بها. وبعد زواجه من السيدة (فرانسين فور) التي منحته توأما (جان و كاترين) ، ثم يغادرها مع صدور روايته الشهيرة "الغريب" التي ستجعل منه أيقونة الآداب العالمية بتتويجه بجائزة نوبل للآداب العام 1957 - ستون سنة على نوبل يا سيد ألبير كامو، وتقول الأخبار الطازجة أن أعمالك تُمنع في بعض الدول . إنك حيّ . إنك تقلق الأموات الذين يتحركون فوق الأرض . أواصل سيري.. لرذاذ مطر وهران المغموس في رطوبة البحر مفعول خاص.. كأنني أرى ألبير كامو المولع بوهران، يمرّ على دراجته الهوائية لينسحب إلى الشاطئ أو إلى مبتغاه "كاناستيل" في الضاحية الشرقية بمقاهيها وحاناتها ومطاعمها وبحرها وطنفها وصخورها. واحدة من أجمل الأماكن العزيزة على قلبه في وهران المكان والحياة والطبيعة والأصدقاء (بن يشو و روبلس و جان دانييل و كوهين..).! أسير تحت رذاذ المطر أمرّ بمقهى "السانترا" التاريخية، قرب ثانوية پاستور حيث كان والدي يعمل أستاذا في السبعينات. ليس ببعيد يقع فندق "الرويال" على بعد خطوات قليلة من جبهة البحر. - مالذي حدث!؟ أجدُني بمقهى السنترا أجلس خلف فنجان شوكولا ساخن وإذا بي أرى ألبير كامو أمام فنجان قهوة. يقابلني غارقا في ممرات روايته (الطاعون) التي تروي وهران على طريقته. من أجمل ما كتب. بدأها هنا بمقهى السانترا عام 1939 و تأخر نشرها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عام 1947. - بونجوغ موسيو ألبير.! - بونجوغ رابيعا.! لم نكن غرباء. كأننا نواصل حديثا سابقا. يشير ألبير من نافذة المقهى قريبا من ثانوية باستورويفضي: - هاربا من النازية، كنت أدرس التاريخ و الجغرافيا هناك. في متوسطة (كوليج)، وتسمى أيضا "الدراسات الفرنسية". إنها إقامة كبيرة... أبديتُ اهتماما ببوحه فغاب في الكلام : - في هذه الإقامة الخاصة، كان يُستقبل التلاميذ اليهود الذين طُردوا من المدارس الفرنسية على إثر قرار فيشي العنصري. - أتدرين ؟!.. أنا أحب وهران جما. الكثيرون لا يعرفون نصا كتبتُه عن وهران بعنوان "المينوتور أو الاستراحة بوهران".إنه نص غير معروف و غير متداول. منشور ضمن كتابي "الصيف" 1954، و فيه أرسم طوبوغرافيا أدبية عن مدينة وهران، جولة ظاهرية و عينية و باطنية سيكولوجية عن المدينة. نص يعاين الحال الداخلي والأحياء والناس، أحياء الأهالي الفقيرة و الأخرى الثرية. ومع كل ما كانت تمنحه وهران من سعادة لي إلا أنني وسمتها بعبارة أصبحت شهيرة. - "وهران مدينة تدير ظهرها للبحر، تلتف حول خليجها كالسلحفاة".! قلتُ له. - صحيح.. وهل تعرفين أنني على الرغم من انتقالي للإقامة بباريس فقط ظلت وهران و أيامُها و الأصدقاء فيها و بحرها تحفر في قلبي . - نعم يا سيد ألبير قلتُ له.. قرأتُ رسالتك لطبيبتك الوهرانية ، زوجة صديقك كوهين، و التي كانت تتابع حالتك الصحية وفيها من حنينك. - نعم كنتُ مصابا بداء السل. - في تلك الرسالة تتأسف على مغادرتك الجزائر، وتقول فيها: " أنتم هناك في ذلك البلد وكنت تعني الجزائرووهران بشكل خاص.. لم أحب بلدا آخر ربما مثله.! - نعم .. ومازلت. أشعر بالمنفى في باريس كلما أفكر في وهران. أقول لكِ. وهران من فصيلة المدن التي تسكن صاحبها بدل أن يسكنها. المدن هي تلك التي تقيم فينا و ليست التي نقيم فيها. وهران هي كذلك بالنسبة لي. دونتُ عنها كثيرا في كتابي "يوميات" Carnets. - نعم قرأتُه يا سيد ألبير كامو..فيه تذكر وهران مرات عديدة، بتأمل وعمق وحبّ. مدينة الحفل و الإبداع،. ثم أعرف أن فيها أنهيتٓ كتابك الفلسفي المثير للجدل "أسطورة سيزيف" الذي صدر العام 1942. تتوقف الأمطار عن التساقط. أودع ألبير بحرارة. وأهنؤه بالذكرى الستين لنيله جائزة نوبل. أتركه في جلسته بمقهى السنترا .. كم كان يبدو سعيدا وكأنه جنين في رحم أمه الهادئ. أسير تحت سماء وهران وأتساءل لولا هذه المدينة هل كان ألبير كامو سيكتب بهذه الدرجة من العمق و الحساسية و الجمال؟! إنها المدينة. بقعة ضوء في قلب الكاتب، مصباح علاء في جغرافية الإدهاش!