يخرج المشاهد من عرض مذكرات ماعز (نص وإخراج حميد قوري) بانطباع أولي يتعلق بزحام الإحالات الواردة في المونولوج الطويل، من المطلع إلى الخاتمة. ثمة تراكم بارز لمجموعة كبيرة جدا من المرجعيات المتنوعة التي جاءت لأغراض وظيفية ما، من منظور الكاتب، ومن ذلك تأثيث النص الذي كان غاية في التنافر والتشظي بالنظر إلى نفسية الشخصية المحبطة، الممزقة نفسيا واجتماعيا ودينيا وأخلاقيا. لقد كانت الحكاية نثارا حقيقيا بالعودة إلى بنيتها. بني النص إذن على لواحق (استذكارات) مكثفة عبارة عن اعترافات للبطل أمام ابن سينا، الشخصية الغائبة، المتواترة بكثافة لأنها تتلقى الخطاب كله، بصرف النظر عن سبب اختيارها كسند جوهري، دون أخرى، مع أنّ الوظيفة، وظيفة الشخصية تاريخيا (طبيب) أو حكيم، كما ورد في القول، قد تبرر هذا النزوع إلى اتخاذها متكأ في خطاب أحادي لا يبني على التفاعل، بقدر ما يبني على الشكوى المستمرة للبطل الغائب، دون حصول أي تداول ثنائي للملفوظات ما بين الاثنين. لقد كان ابن سينا مجرد مستقبل سلبي لما يقوله الممثل، أو جامد لا دور له في إنتاج المعنى، ما عدا الاستقبال الذي لا تأثير له، ولا حضور فعلي على مستوى النص. لقد كان ميتا كحضور، وليس كرمز. لذلك إمكانية استبداله، دون أن يؤثر ذلك على مجرى الحكاية المجزأة إلى نثار. يمكننا أن نلاحظ، في سياق تهافت المرجعيات المتلاحقة، استعانة الكاتب بشخصيات دينية ضاغطة ظلت مرجعا لفئات عينية (ابن تيمية)، وشخصيات سياسية على مستوى التجليات الجملية الكثيرة( الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والملكة إليزابيت ملكة إنجلترا)، أو على مستوى الإشارة: «لقد فهمتكم»، وهي إحالة على خطاب الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول، او فنية:«تركت بلدي، تركت شمسي» المعروفة لدى الجمهور، أو ثورية: لالة فاطمة انسومر، حسيبة بن بوعلي، أو ذات علاقة بالملل والنحل: الحسين، فاطمة، كإشارة إلى الشيعة، أو فنية مكرسة: المطرب بوب مارلي، أنريكو ماسياس، أو أدبية: الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الروائي الأمريكي وليام فوكنر، الشاعر المصري أحمد شوقي،او ذات علاقة بقومية ما: رودريغيز، إلى غير ذلك من الشخصيات المرجعية التي تتجلى بشكل مباشر أو عن طريق التلميح، أو بتوظيف علامات نسبت إليها تاريخيا. جاءت هذه الإحالات مختزلة في أغلب الأحيان، في سطر واحد، أو في شبه جملة، أو في كلمة واحدة. ما يعني أنها لم تستثمر إلا جزئيا، كمجموعة من العلامات الدالة التي ليست ذات علاقة وطيدة بالوحدات النصية في مجملها، كونها تظهر بشكل مفاجئ، ثم تختفي بالشكل ذاته. ما يجعلها، من منظورنا، أثاثا ظرفيا عابرا للمتن، وليس موضوعا من الموضوعات التي تجسد دلالة مركزية قائمة بذاتها، حاضرة ومستمرة في الحكاية الإطار، او في الحكايات الجزئية المضمنة. إنها شبيهة بالاستثمارات الشعرية التي تبني على الشخصيات الممتلئة دلاليا، على شاكلة ما نعثر عليه عند السياب، أو في الشعر الجديد الذي يستعين بمختلف الشخصيات المرجعية في قصيدة واحدة، دون أن تكون موضوعا مستقلا، بقدر ما تأتي مقوية لفكرة سابقة، أو مشيرة إلى متن خارج النص لغايات متباينة. هناك، بشكل آخر، شتات من المرجعيات الكثيرة التي لا تلتقي في جهة ما، لا تتكامل، لا تتصادم، ولا تقيم بينها علاقات معينة تجعلها تدخل في شبكة من الحوارات والأفعال، أو في تضاد يؤزم الحكاية ويخدم البناء الدرامي في تناميه. لقد وظفها المونولوغ بنوع من الرمزية البعيدة التي يمكن استنتاجها من خلال ربط مجموع هذه الشخصيات والخطابات والبياضات ببعضها، بالوحدات النصية والملفوظات المتباعدة بنائيا،أو من خلال قراءة ما وراء النص لفهم معناها ووظيفتها، بتعبير فيليب هامون. لا يمكننا، في واقع الأمر، فهمها كلية بالاعتماد على النص وحده من حيث إنه امتداد للمعنى الخارجي. هذه الشخصيات تشتغل جزئيا داخل النص، لذلك سيحتاج المشاهد إلى معرفتها خارجه، هناك حيث تبدو مكتملة، وواضحة المعالم. يحقق هذا الخيار المسرحي مبدأ الاقتصاد، (اقتصاد القول والحركة في المسرح مثلا، أو الاقتصاد السردي في النثر، او اقتصاد الصورة في السينما) وفق رؤية ما وذوق ما يمليهما الجانبان الفني والوظيفي. أي أنه يختزل مكونات خطابية كثيرة في اسم علم أو في ملفوظ لضرورة ما، في مرجع مفتوح على ممكنات تأويلية واردة، لأنه يترك المجال للمتلقي ليحاول استنباط ما أمكن استنباطه من هذه الإحالة الموجزة بفك الشيفرات وفق تموقعه ومستوى تلقيه للنص، سواء بربطها بالسياق الحكائي، بالأحداث، أو بقراءتها تاريخيا، ثمّ محاولة فهم دورها في العرض كبناء أكبر، وكنسق له منطقه واستراتيجياته. نشير، في هذا المقام، إلى وجود شخصيات إحالية جماعية أخرى، ومن ذلك الإخوان المسلمين واليهود والجزائريين والفرنسيين والشيوعيين، وتشتغل هذه الشخصيات، بدورها، خارج النص، أكثر من اشتغالها داخله: إنها نتائج لسياقات أيديولوجية وتاريخية لا يكشف عنها النص جيدا، بقدر ما يشير إليها إشارات عابرة، ثمّ يترك للمشاهد حرية القراءة والفهم. خاتمة: يطرح المونولوج، أساسا، التفسخ الأخلاقي لشخصية تدّعي التدين، على الأقل من الجانب المظهري: اللباس واللحية، ولأنّ هذه الشخصية غائبة جسديا، فإن الممثل يستحضر تناقضاتها وانهيارها، أو التعارض الحاصر بين مظهرها وفعلها. لكن ذلك لا يعني أنّ المولوج اكتفى بذلك، هناك، في النهاية، موضوعات متشعبة تدور حول قضايا سياسية وتاريخية ذات صلة ما، مع إمكانية فصلها عن الموضوع البدئي. النص، في واقع الأمر، عبارة عن ورشة لم تكتمل بعد، بحسب ما قاله المخرج، ومن ثمّ فإن هذه المقاربة هي قراءة للعرض المقدم في مايو 2018، قبل تحوّلاته الممكنة في العروض القادمة، لذلك وجب التنبيه إلى الطابع النسبي للمقاربة، وبانتظار أن يستقر النص لاحقا، بعد التدقيقوالمراجعة، إن حدث ذلك، فإنه من المهمّ، الإشارة إلى ضرورة اللجوء إلى بعض البياضات، أو إلى اختزال بعض المشاهد تفاديا لتفاصيل ليست ذات وظيفة حقة. هناك جزئيات يمكن الاستغناء عنها خدمة للنص، وللتلقي. المتلقي ليس بحاجة إلى كل التفاصيل، إنه يشاهد ويفسر، وبمقدوره أن يستنتج ويكمّل ما لم يقله الكاتب.