كثيرة هي المناسبات التي تستوقفنا محليا ودوليا حول موضوع الطفولة، لكنها تبقى مناسبات وفقط ، تمر كغيرها وتدور السنة لنتذكرها من جديد، نحتفل بهم ونحتفي للحظة ونسطر لهم برامج ونشاطات خاصة تدخل البهجة إلى قلوبهم وينصرفون بعدها بروح مزهرة ومزهوة للحظة، كل إلى مكانه المعتاد. لكن من سأل بعدها عن شريحة كبيرة من هؤلاء الأطفال، ومن تتبع خطاهم وحاول رصد أوضاعهم وتلمس أحوالهم، يستوقفنا أحيانا ذلك الذي يبيع الخبز التقليدي على حواف الطريق السيار، أو ذلك الذي يجمع الخبز اليابس، ليوفر الطعام للدجاجة الوحيدة التي تعطيه بيضة كل صباح أمام بيته القزديري، إن لم يكن ذلك الخبز اليابس هو الوجبة الأساسية له ولعائلته، مع شيء من الماء الساخن أو ما يشبه القهوة أو الشاي أو القليل من الحليب المخلوط مع الكثير من الماء،،أو ذلك الطفل الذي يمر صبحا وعشية على الأحياء، يفتش في النفيات على بقايا أكل، ويجمع في طريقه كل ما هو مواد بلاستيكية وبيعها لتوفير بعض الدنانير لشراء بعض من أدواته المدرسية ؟؟ !! يتصارع الكبار على المناصب والامتيازات، يكدسون المال يشترون الدّمم، ويجعلون من الجشع قانونا وسنة أقل ما يقال عنها سنة دميمة، ويتعاملون مع الواقع بالمثل الشعبي « بعّد على راسي واضرب بالحجر» أو « خلي البئر بغطاه» لكن أنا أقول كما كانت تقول جدتي عليها الرحمة « لو كان رڤبوا لو كان ندبوا «. تتراكم الكوارث الاجتماعية، ويستمر غياب القيم العليا إلى درجة التعفن الذي أصبحت نتيجته الحتمية، الخطف والقتل والاغتصاب وزنا المحارم المسكوت عنه طبعا، البعض دق ناقوس الخطر في أكثر من مناسبة لكن رجْع الناقوس ذهب صداه مع الريح التي أصبحت هي نفسها مثقلة بالسموم. المهلوسات بأشكالها المتنوعة، المدسوسة مرات في كل ما يشتهيه الأطفال، من حلوى وشوكولاتة وعلكة وغيرها من السكريات والحلويات. مهلوسات موزعة على المستوى الوطني بشتى الطرّق والوسائل والتي لم يسلم منها حتى أطفال الطور الابتدائي. الجنوح الذي وصل إلى نسب كارثية، محاولات الانتحار والانتحار الفعلي بين المراهقين والشباب فتيانا وفتيات، وصل إلى درجة عليا حتى أصبح مرئيا ومفضوحا، وكل المؤسسات التربوية والاجتماعية والنفسية تحتفظ فقط بالنسب المئوية للنجاح سنويا، وتهمل كليا الخراب الذي ينخر المدرسة الجزائرية على المستوى التعليمي، ولكن أيضا تغاضي النظر على المشكلات النفسية الخطيرة والآفات الاجتماعية كالمخدرات، التي أصبحت واحدة من أخطر الظواهر الإجتماعية على المستوى الوطني، التي تحتاج إلى أخذها بعين الاعتبار قبل فوات الأوان. فالغنغرينا وصلت حتى العظم ولا شفاء منها إلا البتر والردع الصارم . ما يثير الانتباه أيضا في هذا السياق، هو إجبار بعض العائلات لبناتهن اليافعات، وهن لم يتعرفن بعدة حتى على معنى الحياة ولم يشبعن من اللعب مع أقرانهن، على ارتداء الحجاب أو النقاب، ومحاولة إقناعهن أن الأمر طبيعي وفرض ديني إجباري، لا وعي ولا حرية في الاختيار، الأدهى من ذلك أن بعض الأهل أعطوا لأنفسهم الحق حرمان الفتاة من الدراسة حتى في المرحلة الابتدائية، مخترقين بذلك القانون التربوي الوطني الخاص بإجبارية التعليم. قطاع التربية في نظري مثله مثل الدفاع الوطني، إذا لم نسخر له كل الإمكانات المادية والمعنوية، للنهوض به وتطويره وتحسينه وجعله يتماشى مع تطورات ومتطلبات العصر، لن نتمكن أبدا من صناعة وتكوين جيل يتحمل مسؤولياته في بناء الوطن فكريا وثقافيا وعلميا، والدفاع عنه وعن قيمه العليا بكل قوة عند الضرورة القصوى. طبعا عاشت الجزائر عشرية سوداء دموية قاتلة ومظلمة على الكثير من المستويات، كما أن دورها التدميري على الصعيد النفسي لا زالت مخلفاته إلى حد اليوم بارزة للعيان، والتي كان من المفروض أن تدرس من كل جوانبها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، حتى نعرف كيف نلامس الأشياء في عمقها الحقيقي، ونحاول ترميم ما تشظى وبناء ما هدم على مستوى النفسي والذهني وجمع شتات الذاكرة. لكن مهما حدث، فذلك لا يفسر وحده مطلقا كل هذه الظواهر الاجتماعية المدمرة للنسيج الداخلي للأسرة والمجتمع والمستقبل، إذ لا مستقبل مع تسيد هذه الأمراض الخطيرة. ربما لا أحد أصبح يكترث لفعل الموت الذي حولته العشرية السوداء إلى حالة مبتذلة، نظرا للتقتيل الجماعي الذي عاشته البلاد في تلك الفترة، ولكن يظل الجهد البشري للحفاظ على كرامة الانسان وحياته أكثر من ضرورة، بالخصوص عند الفئات المراهقة والشبانية التي يرتكز عليها مستقبل البلد.