أحيانا أتساءل وأنا المعجبة بالشاعر جرير الذي يغرف من بحر، ماذا لو عاد بيننا يقاسمنا زمننا هذا. يركب الطائرة ويسوق ال4/4، ويحمل حاسوبا، وسْمارتْفونْ وكل «المصائب» الإلكترونية الجميلة؟ عن أي شيء كان سيكتب.؟ على أي إيقاع يا ترى كان سيمخر عباب بحره؟ يخيل إليّ أنه سيكون صادقا مع نفسه وغيره وعصره، ويكتب قصيدة مختلفة، لا يهم كيف..أن تخترق الكلاسيكية، أو تكون نثرية، أو ضوئية، أو على نظام الهايكو، أوقد تكون شيئا آخر لم يخطر على البال لحد الآن. وقد تكون لا هذا ولا ذاك، ولكنها حتما لن تكون قصيدة موميائية. سيعرف «السيد الشاعر جرير» بذكائه وحساسيته وفطنته، أنه ليس من السهولة أن يَفْتِن المتلقّي المعاصر بيسر، يفتكّ انتباهه، ويأخذ بتلابيب وجدانه نحو عوالمه، ومواضيعه، وإيقاعاته، ذلك لأنه يواجه منافسة عسيرة وخطيرة. فمغريات العصر المدهشة عديدة. ووقت الناس ضيق مثل خرم إبرة لا يمر عبرها جَمل. سيتفطن السيد جرير إلى أنه لم يعد من السهل الاتكاء على البحور والقوافي المعتادة، فأذن المتلقّي لم تعد شاغرة إلا منها ولها، تنتظرها بفارغ الصبر يوم السوق. بل أضحت أذن المتلقي هذه مثل مجمّع تجاري ضخم يعرض سلعه، وفي الجو حروب دعائية مكهربة وعصيبة. تغيرت تلك الأذن القديمة المتآخية مع الطبيعة، أضحت تتنافس على طبْلتها الداخلية إيقاعاتٌ من كل العالم، والثقافات القادمة من أقصى الشرق وأقصى الغرب، والقادمة من القطبين الشمالي والجنوبي. هكذا استحضر شاعري المفضل جرير.، أستأنس به وبرأيه وأنا أورِّق كتاب الشعرية العربية والإنسانية، في ظل زمننا هذا ذي السرعة المدوخة. زمن مكتظ على آخره بالضجيج. سأجلس إليه وأخبره أنني مازلت أحب شعره، والبحر الذي يغرف منه، بما أنني ابنة البحر وجارته ، أقرأ له كما أقرأ ل « سانت أوغوستان «، وللوركا، وخورخي لويس بورخيس، وبودلير، وعمر الخيام، وما ورثته الإنسانية من ثريات فرح، وما ورثت من شعر عربي غزير وجميل يمتد إلى مئات السنين. سيدرك أنني مثله ابنة عصري، ولي مشاكسات في اللغة العربية الجميلة، المتجددة المليئة بالمفاجآت. ولي صوتي الشعري، قد تكون بعض حباله من حنجرته، أو من حنجرة خصمه الشنفرى، أو ابن الرومي، أو المتنبي، أو ابن زيدون، أو ابن الفارض، وكم كبير هو الشرف. لكنني لأنني أنا ربيعة. أعيش في هذا العصر، ولن أخونه بالهروب منه ماضويا ، ولأنني شديدة الإعجاب بهؤلاء الشعراء الذين كتبوا بوفاء لأمور عصرهم باللغة العربية، التي تطورت في ملعب خيل حِبْرهم، سأكون وفية مثلهم، وأكتب بوفاء لأمور عصري، وبلغة عربية تشع الصحة من خدودها، ويشع الذكاء من عينيها. سيكتشف جرير قصيدة النثر المنتشرة في عصرنا. سيدرك بحسه الجمالي أنها على الرغم استسهالها من لدن العديدين، إلا أن سرجها السامق مازال عصيا على الفرسان، وأن حصانها الجامح، لا يترك من يمتطيه يفرح بمتعة النصر بسهولة، حتى يلقي به إلى اليابسة من جديد. وسيعلم أنها ما تزال أرضا عذراء، تنبت الزهر والبلح. تحاول رسم التفاصيل الصغيرة والهموم الكبيرة العامة. ربما يقرأ الناس في عصور آتية ما نعيشه في يومياتنا هذه، من تفاصيل تهمّهم، كي يتجاوزوا أخطاءنا السياسية والاجتماعية واللغوية والجمالية والأخلاقية. ثم لابد أن الشاعر جرير سيطرح السؤال : - في زمنكم زمن الناس هذا .. أليس بينكم ناقد جليل ؟ لكنه جرير أثيري بين الشعراء.. سأخبره بكل شيء وأضع بين يديه كل ما نشر. سيصل بنفسه إلى النتيجة الحتمية.، من المستحيل أن يستطيع الأكاديمي المعاصر المرتبط بالنظريات المتخشبة، والآراء الثابتة المطمئنة، والعادات التكرارية التي ذمها الجاحظ بصفتها سمة مزعجة في المعلمين. من المستحيل أن يعوّل عليه المجتمع النقدي في تقويم وتشذيب الذائقة اللغوية والشعرية والإبداعية عامة. ليس يشفع لناقد الفن والأدب عموما والشعر خاصة، في هذا الزمن المصاب بلعنة السرعة، حفظُه الأعمى للنظريات النقدية العالمية، إن لم ينغمس كليا ويتبلل بماء الشعر المقدس وعنفوان الواقع المتدفق.. ألم يذهب الناقد الفرنسي الشهير « تين» إلى أن: « الناقد المبدع أديب سابق «؟ أينه ؟، من يفترض فيه، بل يشترط فيه أن يكون أعمق ثقافة من المبدع نفسه، وأرقى ذوقا، وأكثر حضارة، وأفهم في زواج الألوان ونفورها، وأسماء الطيور النادرة وألقاب الورد، مسافرا في الكتب، وفي الجغرافيا، وأكثر إدراكا للعالم وشؤونه ، حرا طليقا في تفكيره ومبدعا في أفكاره واقتراباته وتحليلاته، عارفا بميكانزمات اللغة في حركيتها الدائمة، وعدم ثباتها على حال، مؤمنا أن في استقرارها أو تقديسها فناءها وأنها لا تفسر الماء بالماء .وأنها تمج الإطناب لأنها من عصر الاقتصاد في كل شيء. ابنة ظروف تشبهه. جيناتها من هؤلاء الذين يذهبون باكرا للعمل إن وجد، « يتشعبطون « بباب الحافلة المزدحمة نصف المفتوح، يقفون في طابور بائع الخبز قبل أن يسقط الليل، ويعودون وقد نام أهل الدار..جيناتها من قيثارة تقلد الساعة الجدارية في موسيقى دقاتها، تقول له: نم يا حبيبي وغدا قُصَّ علي أحلامك باختصار.. اِبحث معي عن ناقد فيه هذه الصفات الحضارية والموسوعية كلها، وتعال نضبط رقاص ساعتنا الشعرية والسردية على صوته، وتعال نستمع إلى رأيه، في خشوع، حول ما تقدم من أعمال أدبية وما تأخر، والآتية منها لا ريب فيها.