- جاء الوناس.. ! -»أين هو؟ إنه يقف بين القرّاء المتلهفين إلى اقتناء الكتب. ثم إن عليك أن تدقق النظر هناك. النظر الذي لا جدوى منه -أحيانا-، كي تتأكد بالكاد من أنه ضرير. فالوناس لا يحمل عصا، ولا يرفع رأسه للأعلى مقابل السماء بالتحديد مثل الفنان سيد مكاوي، ولا يديره يميناً وشمالا، كي يصيخ السمع كما يفعل «راي شارليز». ولا يضع نظارة سوداء قاتمة مثل ستيفي وندير أو طه حسين، ولا يمد ذراعيه نحو الأمام اتقاء لحفرة محتملة أو عامود كهرباء كما تفعل في الظلمة، ولا يتعثر في مشيته، ولا يتردد في خطوته، ولا يقبض بقوة وحذر على ذراع مرافقه. ثم أين هو مرافقه؟ ذاك الرائع الذي لا يوحي بأنه يرشده الطريق أبدا. بل يقف بجانبه على مسافة كافية، حتى تظن أنه هو من ينتظر الوناس ليرشده، وبدونه لن يعرف كيف يشق طريقه وسط جموع الزائرين، الذاهبين الآيبين، المتجولين في أروقة المعرض الدولي للكتاب. إنه «الوناس خير».. شيخ القرّاء. الوناس خير.. حتى اسمه من الخير ! لا يضيّع الوناس أبدا الموعد السنوي لأيام المعرض الدولي للكتاب في البلاد. ثم إنه يحرص على أن يحضر كل جلسات التوقيع لما يصدر لي من كتب جديدة. يدفع لمحاسب الجناح ثمنها، ثم يقف شامخا واثقا بين القرّاء والأصدقاء والصحفيين، الذين صادف وجودهم وجوده. وكم يبهرهم حضور المختلف. يستمعون إليه باهتمام. بل وبإعجاب أيضا. تجذبهم إلى حديثه ثقافته الواسعة، وطريقته الذكية النبيهة في كشفها . -أول مرة تعرفت على الوناس؟ نعم أذكر طبعا.. كان ذلك منذ سنوات عديدة، خلال لقاء أدبي بمكتبة العالم الثالث بوسط العاصمة، حيث كان أمين الزاوي يوقع لقرائه جديده من الروايات . اقترب الوناس دون تردد من المنصة وبين يديه نسخة للتوقيع. أنت لا تكاد تصدق أن له مرافقا يقف بعيدا في مكان ما. بل لا تصدق أنه يحتاج إلى أحد. أو حتى إلى صوت ثالث يقرأ له عاليا. على هامش الجلسة دخلنا في نقاش مع صديقة فرنسية جوسلين وزوجها. قدما من بلاد الجن والملائكة كما قال البصير طه حسين. كان الحديث حينئذ يدور بشغف حول شخصية وكتابات «جون دورميسون» الذي ملأ بدوره الدنيا وشغل الناس. ومن هؤلاء الناس الوناس. فانضم برفق وسلاسة إلى النقاش الدائر باللغة الفرنسية هذه المرة . كان صوته الهادئ الواثق المتهدج، ينساب مثل نهر بحمولة ثقافية ومعرفية وعلمية غزيرة. ربما مثلما حدث لديمودوكوس الضرير الذي أخذت ملهمته عينيه، ومنحته بدلهما صوتا رقراقا، في أوديسة العظيم هوميروس الضرير . رأيت جوسلين تقف مذهولة. حاجباها يدفعان نحو الأعلى ثنيات جبهتها الملوحة بشمس تيبازة. من أين جاءه هذا الامتلاء كله؟. كان يعرف عن دورميسون ما لم تسمع عنه جوسلين، ولَم تكتشفه من قراءاتها، ولا من تتبعها لحواراته العديدة الثقافية والأدبية على بلاتوهات القنوات الفرنسية قاطبة، بما فيها حوارات برنارد پيڤو وغيره منذ عشرات السنين . نعم مدام جوسلين..باغدون مدام .. رحم الله امرأة أو امرأ عرف قدر نفسه.. إنه الوناس .! بدت مترددة حين طرح الوناس عليها سؤالا حول أحد كتب دورميسون. حارت جوابا . هي هكذا عادة الوناس. يطرح عليك سؤالا عسيرا، عويصا، يربكك. يثير انتباهك. يوقظ فضولك، ثم يجيبك عنه بمتعة وإسهاب، وهو متأكد أن عينيك جاحظتان وأن أذنيك مفتوحتان على آخرهما تلتقطان التفاصيل. - إنه قادم - مَنْ - الوناس -»أين هو.؟ هذه المرة أيضا كانت فرحتي كبيرة حين وقعت عينا قلبي عليه. كان يقف بهدوء، حاملا بين يديه روايتي الجديدة (قوارير شارع جميلة بوحيرد)، وينتظر دوره للتوقيع على نسخته. لم أستطع كبح جماح سعادتي بحضوره. قمت من جلستي وسلمت عليه بحرارة، ومازالت الصور التي التقِطتْ لحظتئذ، تحمل ابتسامته البديعة تلك . شيخ القرّاء.. أكاد أجزم أنه لا يترك ما يقتنيه من كتب يبرد فوق الرفوف، أو يتعفن من فرط الإهمال. لا أبدا. إنه الوناس سيد قراء هذا البلد .