أصلُ هذا المساء. البرد الشديد، ضاحكا يلف «لوك-سور-مير» المدينة الصغيرة الجميلة، في هندستها المتقنة تبدو وكأنها مرسومة بأقلام رصاص وورد. جميع سكانها يلوذون ببيوتهم، بينما الصقيع وحده يبيت يقهقه في الشوارع والأزقة. أحيانا يطل جهة الشمال ليغيظ البحر، الذي على الرغم من مده وهيجانه عند قدميها منذ أبد الآبدين، إلا أنه لم يستطع يوما أن يلمسها بأطراف أصابعه . البيوت مضاءة بشدة. إنها احتفالات نهاية السنة أو بدايتها.لا فرق. مصابيح ملونة وشموع عطرية، و شجيرات الميلاد تطل من النوافذ زاهية. زجاج النوافذ العاري إلا من ستائر شفافة لا تخفي مكامن الدفء خلفه. الأجساد الكبيرة والصغيرة، المسنة والشابة، الرزينة منها والمتوثبة القلقة، لا فرق، جميعها تكمن في حركات ظلالها طاقةُ الفرح، الفرح بشيء ما لا تدركه. كل البيوت أقواس قزح، وحده بيت الآنسة «ماريا ليفيار» وارثة ثراء أبويها الواسع من خمس سنوات ظل دون زينة ودون مظهر احتفال، وكأن الوقت به قد انشق عن الوقت، خرج منه، وتمرد عليه. يتذكر سكان لوك-سور-مير بأسف ما كانت عليه من قبل احتفالات عائلة ليفيار الثرية الشهيرة. . - ماريا لا تشبه أمها أبدا! هكذا توشوش نساء لوك-سور-مير. السيدة ليفيار والدة ماريا- تقول نساء لوك-سور-مير- كانت متميزة، تنطق أصولها السويدية وتتجلى في كل شيء تفعله، حتى في زينة شجرة الميلاد، فلم تكن تضع بها سوى مصابيح زرق صغيرة الحجم تتخلل أغصانها، حتى لتبدو مثل أجنحة حية وكأنها تتهيأ للطيران في كل حين، أو مثل قاع محيط يغص بأسماك زرقاء. ثم إنها كانت تحرص على أن تقتني شجيرات ميلاد بجذور وقاعدة حية، وبعد انتهاء الاحتفال تغرسها في حديقتها الشاسعة مثل حقل تترامى على يسار البيت. السيدة ليفيار الرقيقة، لم تكن تطيق رؤية شجيرات الميلاد بعد انتهاء الاحتفالات، وهي ملقاة في المربع المسيج المخصص لها بطرف كل شارع. يأتي السكان عادة حاملين جثة شجيرتهم، ويلقون بها هناك إلى أن تأتي مصالح البلدية لجمعها. والدة ماريا السويدية الرقيقة، كثيرا ما كانت تحتمي من البرد الصقيعي بمعطفها الأبيض الناصع، وتخرج بعد الاحتفالات دون أن تخبر أحدا. تجوب المدينة الصغيرة، تختفي عن الأعين. تجالس الوحيدين والغرباء ومن لا مأوى لهم يعرفونها. وفي طريقها تقترب من الشجيرات الملقاة في المربع المسيج بنهاية كل شارع. شجيرات تبدو حزينة مكسورة الخاطر. تقف عندها. تلمس أطرافها الممتدة نحوها. تستمع إلى بوحها هي الأخرى.تتقاطع أصواتها الجريحة: - يا لكم أيها البشر. أنانيون أنتم حتى في احتفالاتكم. أي أمان في حضنكم. ألم تأتوا بِنَا إلى البيت، وتغدقون علينا المحبة والاهتمام والزينة والمصابيح؟ ألم تضعوا تحت أقدامنا هداياكم لأحبتكم؟ ، ألم نشهد على عيونكم وهي تشع من الفرح بلقاء من تحبون؟ ألم تدق قلوبكم حولنا وترتجف؟ ألم تتعانقوا بقربنا أمهاتٍ وآباء وأبناء وعشاقا؟ ألم نضيئكم وأنتم تتبادلون القبلات؟ ..ألم ألم ألم.. كيف ترمون بِنَا بدم بارد إلى الشارع البارد، بعدما كنتم قد أسكنتمونا قرب المدفأة؟حقا صدق من قال إن الإنسان ناكر للجميل. الإنسان غريب الأطوار. كانت ماريا تكبر وهي ترى والدتها ترجع إلى البيت قلقة مرتبكة حزينة، لا تعود إلى طبيعتها كالعادة في كل أمر صعب إلا بعد أن تجلس إلى مكتبها، وتفتح المجلد الضخم لتكتب مذكراتها السرية، ثم تخفيه حيث لا يصل إليه أحد . - أبدا أبدا..لا تشبه ماريا أمها أبدا! تقول السيدة «آغوت» النرويجية. -ثم إنها تبعثر كل الثراء الذي ورثته عن أبويها وأجدادها على الجمعيات الخيرية! تردف الفنلندية «إستير». – وعلى الفقراء والذين دون مأوى . - علمت أنها تموّل ست جمعيات إنسانية في العالم! تضيف أنْييتّا . - وعلى ذوي الاحتياجات الخاصة، والجمعيات الرفق بالحيوانات و... و تقول بريجيتا وهي تمطط في الكلمات عنوة. هكذا لا تتوقف ألسنة نساء لوك-سور-مير على نقد ماريا. لا تعلم نساء لوك-سور-مير أن الآنسة ماريا ليفيار تعرفهن واحدة واحدة، بأسمائهن وطبائعهن وميولاتهن ونقائصهن وحكاياتهن الأكثر غرابة، لأنها ببساطة لم ترث المنازل، والعمارات والمتاجر الضخمة، والحقول المتبقية من أجدادها القدماء، والأحصنة، والسيارات الفاخرة فقط، بل إنها ورثت أيضا ثلاثة مجلدات لمذكرات أمها، أخرجتها من مخبئها، تحتوي على حقيقة والدتها، ونظرتها العميقة وفلسفتها للحياة. ومنذ أن مات أبوها وأمها في تفجير إرهابي في باريس منذ خمس سنوات، وماريا تقرأ ما جاء فيها بتمعن وإعجاب وكمن عليه واجب لابد أن يؤديه . في كل صفحة تكتشف أمرا مذهلا. لم تكن تصدق ما كانت تخفيه أمها، تلك السويدية الرقيقة المدللة.