هي كلمات قليلة عن الناقد عامر مخلوف وددت قولها من باب من لا يشكر الناس لا يشكر الله، لم تسعني عشر دقائق في حفل تكريمه لأقول ما وددت قوله عن صديقي الأعز عامر الذي لا تكفي الصفحات العديدة للكلام عنه من زاوية ليست عن اهتمامه الأكاديمي فذلك يتجاوزني، ولكنني ككاتب حصرتها في نقطتين من الجانب الأخلاقي في شخصه، الذي زاده رفعة بعد علمه، وهو مما يعرفه عنه جل الكتاب. وقد أسعدني جدا أن كنت حاضرا في الاحتفاء به وتكريمه في الملتقى الوطني «حضور الوطن في الأدب الجزائري» من لدن مسؤولي المركز الجامعي تيسمسيلت، ورئيسة الملتقى الدكتورة الكاتبة حفيظة طعام، وهم مشكورون على هذا السلوك الحضاري الذي يسهم في ترسيخ ثقافة الاعتراف بشخصياتنا ورموزنا. شرف ممارسة النقد (العدالة والموضوعية) أسهم عامر مخلوف ولا يزال في ترقية الساحة الأدبية، إذ يعلم الجميع أن الكم الموجود في الساحة من الإنتاج الأدبي لم يواكبه النقد بالقدر الكافي، على الرغم من وفرة المتخصصين، ومع سمو قدره وجلالة اسمه في الوسط الأدبي فإنه لم يأل جهدا في الاحتفاء بنصوص كثير من الشباب، يقرأ ولا يأنف، لا شللية تشله، ولا غرض آخر يشغله عن شرف ممارسة النقد بشكل متحضر، وعن قول ما يعتقد، كما يسعَد لوجود نص حقيقي لأي كاتب جزائري، وبقلب يعرفه المقربون منه لا يزال يئن محتفظا ببعض الندوب الكبيرة، متحسرا أحيانا، وأحيانا أخرى منفتحا على أمل مرتقب، تملأ فراغاته القراءة المتواصلة لأغلب ما ينتجه كتابنا، في نهم قل نظيره، يردد عامر مخلوف قولته الشهيرة عن شعوره الدائم: «ما يحزنني هو أن يكون هناك نص جزائري جميل فاتتني قراءته». ناقد من الذين أخلصوا للنقد فاهتموا بالنص دون سواه، وكمثال نذكر كتابه النقدي الصادر العام الماضي «ألوان من الحكي» وهو كتاب يضم أعمال أكثر من ثلاثين كاتبا أغلبهم من الجيل الجديد، ومثل هذا حسب اطلاعي البسيط لم يحدث على الأقل في سنوات عشرٍ مضت، إذا استثنيا كتاب إضافات في الأدب الجزائري للأستاذة حفيظة طعام، قلت أكثر من ثلاثين كاتبا وكاتبة، لا يعرف أغلبَهم ولم سبق له أن التقى بهم. وفيهم روائية شابة هي دهية لويز، رحلت إلى جوار ربها ولم يكتب عن روايتها سوى عامر مخلوف، مدركا أن السادة لن يلتفتوا إليها، متيقنا من أن لديها ما لا يملكه كثيرون من الذين تسبقهم أسماؤهم، وكان صادقا ومحقا، وكان رأيه صائبا، لكن أكثر الناس لا يعلمون. لا حاجة لعامر في الأسماء، فهي لا تضيف له شيئا، وإن تناول عملا لكاتب معروف فذلك من طبيعة انشغاله العلمي ليس إلا، فلا فرق عنده بين النصوص إلا في ما احتوته من إبداع أو ما تضيفه من جمال وأدب، وهذا ما أعتبره من وجهة نظري بل وأطلق عليه اسم «مروءة علمية» في ظل فساد يكاد يمس الجميع، إذ لا أرى فرقا في السلوك والمبدأ بين دارس لا يتناول إلا أعمال معارفه والمقربين وإداري لا يمرر إلا ملفات معارفه ومقربيه. عامر مخلوف صديق الكتاب والمبدعين، بل هو واحد منهم، لكن هذا لم يمنعه من ممارسة قناعاته وفق ما يمليه ضميره، وما يحتمله منطق العقل والأدب والإبداع، طائر يحلق بعيدا خارج سرب الشللية والزمالة والإيديولوجية، يقول رأيه وما يراه صوابا دون النظر إلى ما يمكن أن يسفر عنه من رد فعل في الجهة المقابلة، فما دمتَ تكتب الشعر أو الرواية أو القصة فأنت صاحب لغة، ويتحتم عليك أن تعلي من شأنها، فإن أخطأت فذلك -لدى الناقد عامر مخلوف- يستدعي تنبيهك أو توجيهك، فإن يفعل هذا معك ناقد بحجمه، فذلك شرف لك، ثم إنه يذكرك بآدميتك، لأن كل ابن آدم خطاء. الاعتراف بالخطأ من شيم الكبار وحدهم وعلى ذكر الخطأ وأن كل ابن آدم يخطئ، فإن قيمة الاعتراف والإقرار به صارت نادرة، في مجتمع لا يثمن هذه القيمة، نسمع ويسمع أصدقائي الكتاب كما أقرأ ويقرأون أحيانا في صفحة وموقع الأستاذ عامر مخلوف، تصريحه أنه أخطأ هنا أو هناك من مساره الحافل، وكمثال آخر ما صرح به في الشهر الماضي من أن الإيديولوجيا في السابق جعلته يظلم الشاعر مصطفى الغماري، فلم ينظر إلى الجماليات الكثيرة الموجودة في شعره. ومع ندرة هذا السلوك الإيجابي في زمننا نستطيع القول أن لا مخطئ في هذا البلد إلا عامر مخلوف، نعم يمكن أن نقول هذا، لكن يجب علينا أن نقول أيضا أن لا إنسان في هذا البلد إلا عامر مخلوف، لأن الخطأ من صفات الإنسان وحده. كثيرون لا يعرفونه خارج إطار القارئ الحصيف، الأكاديمي والناقد الرصين، أو ذلك الأستاذ الجامعي الذي يفتخر طالب الدكتوراه بوجوده في اللجنة مناقشا، يعرفه مجايلوه طلائعيا سابقا في الصفوف الأولى لتيار فكري فاعل، كان يضم نخبة المثقفين والفنانين والجامعيين، وكان هو من بين صانعي أحداثه أيام المحنة الوطنية التي بقي فيها ثابتا لم يتزحزح، مؤمنا بمبادئ العدل والمساواة، والعقل والعلم، والعكوف على النضال من أجل تحسين ظروف وترقية تلك المبادئ. عامر الذي بقي صامدا نقيا لم يتلوث، آثر المبادئ على المنصب والمال، عامر المحبط والمنكسر من التحولات الكثيرة الحاصلة في البلاد والعباد، كثيرون تغيروا (في الوقت الخطأ)، وكان هو يرى ذلك تنكرا، ليس للمبادئ فقط، بل لتضحيات المخلصين، خاصة أولئك الذين لم ينس بعدُ بريق أعينهم وهم يغادرون عالمنا. شأن كل قلوب الكبار، فإنك لن تعرفه إلا إذا اقتربت منه كثيرا، فإذا به شفاف كنهر صاف، فلا تنصرف إلا وقد استفدت من حديثه الذي لا يخلو من طرافة ومن متعة وعلم، يحدثك عن الماضي الثقافي القريب للبلد؛ فلا تلبث أن تجده فيه، حاضرا في مشهده دون مساحيق كما يحدث مع آخرين. عامر مخلوف آخر الوراقين في جيل تكون في زمن استثنائي لم يكن الانترنيت فيه موجودا ليقص ويلصق، فلم يكن لهم الحظ لينبهروا بالضوء، فتحية إكبار لك يا آخر الوراقين، وكن بخير، أنت وأمثالك، ليكون الأدب والوطن بخير.