أبسط تعريف للنخبة أنها "مجموعة من أفراد المجتمع الأكثر تميزا بخصالهم" و النخبة أيضا هم "مجموعة أشخاص يتمتعون بخبرة في ميدان معين " . فالنخبة كلمة مشتقة من الانتخاب , و بالتالي فإن من يوصف بالنخبة من المفروض أن يكون منتخبا أو مختارا لكونه الأفضل في مجال تخصصه ...و من ذلك فرق النخبة في الجيش و في الرياضة و في الدراسة ... و ما إلى ذلك من مجالات النشاط الإنساني . و في لسان العرب لابن منظور :" نخب : انتخب الشيء : اختاره . والنخبة : ما اختاره منه . ونخبة القوم ونخبتهم : خيارهم . قال الأصمعي : يقال هم نخبة القوم ، بضم النون وفتح الخاء . قال أبو منصور وغيره : يقال نخبة ، بإسكان الخاء ، واللغة الجيدة ما اختاره الأصمعي ويقال : جاء في نخب أصحابه أي في خيارهم . والانتخاب : الانتزاع . والانتخاب : الاختيار والانتقاء ، ومنه النخبة ; وهم الجماعة تختار من الرجال ، فتنتزع منهم . وفي حديث علي - عليه السلام - وقيل عمر : وخرجنا في النخبة ; النخبة ، بالضم : المنتخبون من الناس المنتقون . وفي حديث ابن الأكوع: انتخب من القوم مائة رجل"... أما عن معنى السياسة, جاء في لسان العرب ..."وقال الفراء : وفلان مجرب قد ساس وسيس عليه أي أمر وأمر عليه . وفي الحديث : كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبياؤهم . أي تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية . والسياسة : القيام على الشيء بما يصلحه . والسياسة و بتركيب التعريفين فإن النخبة السياسية , "هم أفضل الساسة المختارون لتولي أمور الرعية بما يصلحها ". كما أن النخبة الجامعية , "هم أفضل خريجي الجامعات و المدارس العليا المنتخبون لتولي أمور الدارسين بما يصلحهم " غير أن التعريفات و المصطلحات تبقى عاجزة عن مجاراة الواقع الذي يضفي عليها التلوينات والتعديلات الضرورية لمسايرة مستجدات العصر و تطور الشعوب و أنظمة الحكم. و مثل هذه التعقيدات دفعت بعض الباحثين إلى تركيز جهودهم لتحديد مفهوم للنخبة باستقراء واقع مجتمعهم , ومنهم ويلفريد باريتو الذي بسط المفهوم إلى أقصى الحدود ,أساسه التقسيم الطبقي للمجتمع , و اختصره في طبقتين و هما: طبقة النخبة و طبقة العامة . لكنه لاحظ أن طبقة النخبة تنقسم بدورها إلى قسمين ؛ نخبة حاكمة ؛ و نخبة غير حاكمة , و يكونان معا , الطبقة السياسية , بحيث تضم الأولى ؛ أعضاء الحكومة و الإدارات المركزية و كبار القادة العسكريين و يضاف إليهم في بعض المجتمعات ,العائلات ذات النفوذ السياسي ,و قادة المؤسسات الاقتصادية , و تتكون الثانية من النخب المضادة كقادة أحزاب المعارضة و النقابات و رجال الأعمال و رجال الفكر الذين ينشطون في المجال السياسي.و نظرا لمبدإ التدافع بين هذه النخب , فإنها تتبادل الأدوار ,بين الحكم و المعارضة , الأمر الذي يتيح للنخب الجامعية تقلد مهام في الحكم , كما يمكن لأعضاء في الحكم العودة إلى المدرجات الجامعية للتدريس , و هو ما ينسحب على بقية النخب "حاكمة كانت أو غير حاكمة". الجمع بين ديمقراطية الدولة و ديمقراطية المجتمع معادلة صعبة و هو ما توصل إليه عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز رايت ميلز في كتابه "النخبة الحاكمة" , نقصد مسألة احتكار الحكم من طرف نفس النخبة حتى و إن تغيرت الوجوه أو الأحزاب . حيث لاحظ ميلز في تشريحه لنظام الحكم في بلاده , "أن السلطة تحتكرها ثلاث قوى هي , الجيش , و الشركات الخاصة و النخبة السياسية " و أن أقوى هذه الأطراف هي الشركات الخاصة , و يشرح كتاب ميلز كيف تمكنت هذه القوى من التحكم في أكبر قدر من السلطة و حرصها الشديد على عدم تسلل هذه السلطة لأي جهة خارجها و الاحتفاظ بها مهما كان "الثمن غاليا و غير أخلاقي , و مهما كلف من خسائر بشرية واقتصادية " . و يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها , "أن النخبة الحاكمة انتزعت من يد المواطن العادي القدرة على اتخاذ قرار فعلي يسهم في تغيير يراه إيجابيا , دون موافقتها". و يتساءل ميلز في الأخير : في ظل نظام ديمقراطي ظاهريا , لماذا يتم إيهام الشعب بإمكانية اختيار ممثليهم , إذا كان النظام في واقع الأمر لا يمثل إلا نفسه , ما دام الذين يتخذون القرار في الدولة هم من نفس القوى و يتقاسمون نفس التوجهات السايسية و الاقتصادية ؟و بهذا تكون النخبة بمكوناتها الثلاث قد بنت دولة ديمقراطية سياسيا , لكنها لم تبن مجتمعا ديمقراطيا , حسب ميلز الذي أسهب عبر حوالي 5 فصول من كتابه في تتبع المسار التاريخي للنظام السياسي لبلاده ليثبت وجهة نظره من خلال استعراض العائلات التي تداولت الحكم و الروابط العائلية و الاقتصادية التي تجمعها سواء كانت في الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري . و لعل التعليق الذي أورده رايت ميلز في إحدى مقالاته سنة 1958, يلخص ما فصله في كتابه النخبة الحاكمة و مفاده "إذا قبلنا التعريف اليوناني للشخص الأحمق بكونه هو (المتحفظ و لا يهتم بالشأن العام ) لوجب علينا الاعتراف بأن الكثير من المواطنين الأمريكيين الآن حمقى , و لا يبدو هذا مفاجئا لي , رغم كوني لا أعرف إن كان يوجد بعض الحمقى في ألمانيا أيضا؟" لا شك أنه كان في إمكان ميلز استبدال ألمانيا بأي ديمقراطية غربية دون أن يجانب الصواب , بحكم تشابه شكل ومضمون أنظمة الحكم , و قد سبق لنا استعراض النقد اللاذع الذي خص به الإعلامي الفرنسي "سارج حليمي" في كتاب له بعنوان "كلاب الحراسة الجدد", "الفكر البرجوازي" و من خلاله الفكر الغربي كله , بجميع أطيافه و كل إيديولوجياته من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, من منطلق أنه فكر طوّر أساليب للتلاعب بكل القيم و القواعد الأخلاقية و التحكم في أدوات ترويض الرأي العام و توظيفها لخدمة سلطة وحيدة هي سلطة المال. و من خصائص هذه السلطة أنها محصورة في عدد محدود من الثروات الكبرى التي لا تزيد عن العشرين في البلد الواحد , و أنها مثل الأخطبوط متعددة الأذرع ,تنشط في أكثر من قطاع اقتصادي ,مالي ,و خدماتي ,و عسكري , و بطبيعة الحال في قطاع الإعلام و الاتصال , الذي تحرص كل المجمعات المالية الاقتصادية أن يكون لها نصيب في مختلف فروعه و تشعباته. وهكذا لا يوجد في فرنسا مثلا ,فرنسي واحد ليس زبونا أو مستخدَما (أو كليهما) , لهذه اللوبيات الاقتصادية, التي وظفت "حراسا" من بين نجوم الصحافة المرئية و المسموعة و المكتوبة و الإلكترونية , ومن النقاد و المفكرين و من الخبراء في مختلف التخصصات , لحماية مصالحها و الدفاع عن وجهات نظرها و دعم مشاريعها لتزداد قوة و تحكما في جميع مراكز القرار , و كل ذلك يتم ظاهريا في إطار احترام مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير , و التعددية الإعلامية والفكرية و السياسية. النخبة والتغيير بينما الواقع شيء آخر , ما دام صانعوه قلة من "الأنتلجنسيا" تتبادل الأدوار و المصالح في خدمة اللوبيات المذكورة. لقد استعرضنا نموذجين من هذا النوع من النقد الذاتي الذي وجهه أبناء الديمقراطيات التقليدية في العالم الغربي , لأنظمة حكمهم و لنخبهم الحاكمة , لتمكين من يعنيهم الأمر من إجراء المقارنات المفيدة بين هذه الأنظمة , و نظام الحكم في بلادهم , و بين هذه النخب و نخبهم الحاكمة , مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الديمقراطيات الغربية تحتكر حاليا استغلال حوالي 90 % من الثروات العالمية , و الثروات الطبيعية للدول , تمكنها من شراء "السلم الاجتماعي "من مواطنيها العاديين "المتحفظين و غير المهتمين بالشأن العام" و الذين قد يغيرون سلوكهم إن هم فقدوا بعض الرفاه الذي يعيشون في كنفه على حساب بقية شعوب العالم , كما يفعل أصحاب السترات الصفراء في فرنسا منذ أكثر من 5 أشهر. و هذا يعني في الخلاصة؛ أن أي تغيير لنظام الحكم يقتصر على تغيير النخبة الحاكمة بمكوناتها الثلاث (الطبقة السياسية و الجيش و الشركات الخاصة) , سيكون تغييرا محصورا في مجال "ديمقراطية الدولة", أما "ديمقراطية المجتمع " فهي مجال أوسع يفرض على جميع المواطنين الراشدين, ذكورا و إناثا , الاهتمام بالشأن العام , كشأن يومي من شؤون حياتهم , و ليس لفترة محدودة يعودون بعدها إلى شأنهم الخاص.