حلت أمس الذكرى ال52 لاستعادة السيادة الوطنية على القاعدة البحرية مرسى الكبير بوهران (2 فبراير 1968)، وهي المناسبة التي ستبقى خالدة في سجل التضحيات الكبرى التي ما زال يقوم بها أبناء الجزائر البررة، حفاظا على رسالة الشهداء المقدسة، وتكريسا لمبدأ تحقيق السيادة الوطنية الكاملة على جميع تراب القطر الوطني.. وبالرجوع إلى هذا الحدث الهام والمشرق في تاريخ الأمة الجزائرية المجيدة، فإن هذه الذكرى الغالية على نفوس الجزائريين، لم تكن سهلة كما يظن الجميع، بل جاءت نتيجة جهود وتضحيات جسام، قامت بها القيادة الجزائرية آنذاك.. حيث تمثل قاعدة مرسى الكبير منطقة حساسة استراتيجيا، فهي قاعدة بحرية وميناء مضاد للسلاح النووي. وقد أجرّتها الجزائرلفرنسا وفقا لبنود اتفاقية إيفيان لمدة 15 سنة، ابتداء من تاريخ الاستفتاء على تقرير المصير مع إمكانية تجديد الإيجار باتفاق الطرفين. ورغم اعتراف فرنسا بالطابع الجزائري لهذه القاعدة، إلا أنها حصلت على امتيازات وتنازلات كبيرة، منها تعهد الجزائر بوضع أماكن وتسهيلات لفرنسا لحسن سير القاعدة، كالاستفادة من خدمات المطارات القريبة من القاعدة. واستعمال أرضية القاعدة وأنفاقها ومياهها الإقليمية والمجال الجوي، كما خوّلت الاتفاقية لفرنسا كل السلطات، بما فيها مسائل الدفاع والأمن حفظ الأمن في حدود القاعدة. وحتى السيطرة على كامل منطقة عين الترك المتواجدة بالقرب من مرسى الكبير، ومنع الجيش الجزائري من الدخول إلى هذه المنطقة. ويذكر الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في مذكراته، أن الفرنسيين شرعوا دون إخطار السلطات الجزائرية، في بناء تحصينات دفاعية لحماية مرسى الكبير من أي هجوم محتمل. انطلاقا من مرجاجو (بوصفر) إلى غاية سانتا كروز، لتطل على وهران. أو التخطيط للبقاء في القاعدة حتى بعد انتهاء أجال الاتفاقية. وأضاف الرئيس الشاذلي بن جديد الذي كان قائدا للناحية العسكرية الثانية بوهران آنذاك، أنه كان على صلة مستمرة بالجنرال الفرنسي قائد القاعدة. وعندما علم بهذه التحصينات طلبت لقاءه. ليجيبه بأن سبب بناء هذه التحصينات هو وصول أخبار تفيد باستعداد الجيش الجزائري لمهاجمة القاعدة، ولهذا تم الشروع في اتخاذ الاحتياطات الضرورية للدفاع عن أنفسهم، ليرد عليه الشاذلي بن جديد :« أنه لا توجد حجة تدفع الجزائريين إلى استعمال القوة، ما دام أننا موقّعون على اتفاقيات ايفيان.. ليعده بتوقيف بناء التحصينات، وهو الأمر الذي تم بالفعل لاحقا. طالبا منه السماح لبعض الضباط الشباب من البحرية بإجراء دورات تدريبية لضمان السير الحسن للقاعدة بعد الجلاء. وترك العتاد الموجود بها. وبعد مفاوضات عسيرة معهم وافق الفرنسيون على تكوين 50 ضابطا، وعلى التنازل على عتاد قيمته 15 مليار سنتيم بمليار سنتيم فقط. وفي مساء 31 يناير نظّم حفل نزلت خلاله ألوان العلم الفرنسي. وفي أول فيفري تم رسميا استعادة القاعدة. ليرفرف لأول مرة العلم الوطني ويعزف النشيد الوطني في القاعدة بعد 138 سنة من الاحتلال الفرنسي لقاعدة المرسى الكبير. يوم مشهود وفي يوم الجلاء وجه قائد القاعدة الجديدة فارنر دعوة للشاذلي بن جديد، ليسلّم له مفاتيح القاعدة. وأقيمت المأدبة فوق ظهر باخرة راسية بالقاعدة فيما كانت البوارج الأخرى قد غادرت الميناء. وشارك في الحفل الجنرال قائد القاعدة وقيادته العامة، وحضر كذلك السفير الفرنسي وحرمه، وأضاف الراحل الشاذلي بن جديد في شهادته الحية أنه حضر الحفل رفقة أعضاء من قيادة أركان الناحية. وأثناء الحفل أخذت زوجة السفير قائمة الأكل، وطلبت من الجنرال أن يكتب لها كلمة بتوقيعه. حيث لاحظ أن وجه الجنرال أحمّر واغرورقت عيناه بالدموع. طالبا منه الإذن بالخروج مرة أخرى إلى الأرض الجزائرية. قبل أن تبحر الباخرة مطلقة قذائف وداع في عرض البحر. وقمت رفقة الزعيم الراحل هواري بومدين وأعضاء من مجلس الثورة والحكومة وضباط من البحرية الوطنية بتفقد الوحدات البحرية الجزائرية التي دخلت الميناء ويتعلق الأمر بسفينتين، الأولى نسّافة Torpilleur والثانية لحفر السواحل Patrouilleur.. مع العلم أن الانسحاب كان مبكرا بعشر سنوات قبل الآجال المتفق عليها، بل كان الاتفاق قابل للتجديد للبقاء في القاعدة، ولم تُجبر فرنسا على الانسحاب بالقوة كما أجبرت على الخروج من الجزائر، كما انسحبت فرنسا أيضا من القاعدة الجوية العسكرية في « بوسفر» بوهران سنة 1970.. لتنهي بذلك حقبة سوداء سيطرت فيها فرنسا على العديد من القواعد العسكرية والثروات الباطنية للجزائر، لتعود مجددا للسيادة الوطنية بعد تضحيات جسام ستبقى خالدة إلى أبد الآبدين .