أوصت جل الشرائع السماوية بضرورة دفن الميت وذلك إكراما له من جهة وحفاظا على البيئة والصحة العمومية من جهة أخرى، بينما يعتبر دفن الموتى فرض كفاية على المجتمع المسلم، الذي يعتبر كله مسؤولا عن ذلك ويأثم إذا تخلَّف عن دفن موتاه، إلا إذا تجاوزهم الأمر أو كان خارج نطاق علمهم أو حدود قدرتهم. كما أرسى القانون الدولي الإنساني التقليدي قواعد تخص حماية كرامة الموتى واحترام احتياجات ذويهم ، مع إجازة دفنهم في حال عدم التوصل إلى تحديد أهاليهم أو تحديد هويتهم مادام ذلك يتم بالطرق الإنسانية اللائقة، خاصة في حالات الحرب والغرق والكوارث العظمى. وتختلف مظاهر الدفن حسب المعتقدات الدينية والثقافات، حيث تتفق معظم الشرائع على أن يكون باطن الأرض أنسب مكانا لهذه الجثث، في الوقت الذي تعمد ديانات أخرى إلى حرقها وهو ماتحرمه الشريعة الإسلامية لأنه يعد انتهاكا للذات الإنسانية. فيما تستحب الشريعة الإسلامية نقلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم التعجيل بدفن الموتى في الحالات الطبيعية، إلا في حالات معدودة منها حالة المطعون (المصاب بالطاعون) والمفلوج (المصاب بالشلل النصفي) والمسبوت (المصاب بغشية أو غيبوبة)، فيستحب تركها يوما وليلة إلى حين التأكد من الوفاة. الحمض النووي ساهم في حل المشكل وفي الجزائر وحسب وزارة الداخلية والجماعات المحلية فإن هذه العملية منظمة بموجب المرسوم التنفيذي رقم 16 -77 المؤرخ في 24 فبراير 2016 الذي يحدّد القواعد المتعلّقة بالدفن ونقل الجثث وإخراج الموتى من القبور وإعادة دفنها. وكان المشرع الجزائري يمنع دفنها حيث يتم الإحتفاظ بالجثث إلى حين تحديد هوية أصحابها، خوفا من ظهور أهل المتوفي من جديد وهو ما يفتح مشاكل كبيرة على الجهات التي رخصت بالدفن. مكوث هذه الجثث داخل ثلاجات المستشفيات جعلها تعاني خاصة عندما تتراكم لديها جثث كثيرة يصعب قانونا دفنها، وهو الإشكال الذي وقع فيه على سبيل المثال مستشفى وهران الجامعي أكثر من مرة، والكثير منا يذكر حادثة تعطل المبردات في إحدى صائفات تسعينيات القرن الماضي، حيث أصبحت الروائح الكريهة تهيمن على كل الأحياء المجاورة وكادت تتسبب في وباء لولا تدخل الجهات المسؤولة في الوقت المناسب التي أمرت بدفن الجثامين في حالة تعفن متقدم وتصليح الثلاجات من جديد لإستقبال حالات أخرى. لكن يبدو أن الأمور تغيرت كثيرا في الوقت الراهن بفضل التقدم العلمي، حيث يؤكد المختصون أن تقنية تحليل الحمض النووي "دي أن آي" ساهمت كثيرا في حل مشكل الأشخاص مجهولي الهوية، وزادت عملية رقمنة الإدارة الجزائرية لوثائق الهوية فيما يتعلق ببطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر البيومتريين من تحسين الأوضاع أيضا، حيث ساعد ذلك بشكل كبير الطب الشرعي في تحديد هوية بعض الجثث المجهولة، وذلك بالاحتفاظ بها ومطابقتها بالبصمة الوراثية لأي شخص يبحث عن واحد من ذويه لتحديد ما إذا كان هناك صلة قرابة بينهما. استعانة بالأجزاء السليمة من الجسم كما تطور الطب الشرعي كثيرا في الجزائر، حيث أدرجت في السنوات الأخيرة تقنية جديدة يمكن من خلالها تحديد هوية الجثث المتعفنة، والمحترقة أو التي تعرضت للطمس العمدي للبصمات، وذلك عن طريق تجديد البصمة، بأخذ جزء سليم من الجسم لم يتعرض للتلف والإستعانة بالإعلام الآلي لتحديد الهوية. ويتم في هذا الإطار العمل بهذه التقنية على الأخص بالنسبة لضحايا الكوارث الطبيعية والصناعية، وجثث المهاجرين غير الشرعيين الذين تلفظهم أمواج البحار إذ تساعد على تحديد هويتهم في فترة لا تتجاوز السبعة (7) أيام بعد ترميم البصمات الممسوحة. ما تجدر الإشارة إليه هو أن الجثث مجهولة الهوية تأخذ مسارا طويلا للوصول إلى مأواها الأخير، إذ أنه بعد العثور عليها يتم نقلها إلى مصلحة الحفظ بطلب من النيابة العامة، ليقوم الطب الشرعي بعدها بتشريحها لتوضيح أسباب الوفاة إذا كانت طبيعية أو ذات شبهة جنائية، مع تحديد الجنس. وإذا كانت لأنثى يتم تحديد إذا كانت بكرا أم ثيبا، وتؤخذ منها عينات من الدم والبول والأحشاء التي يتم ارسالها للمعامل الجنائية قصد تحديد ما إذا كانت لشخص متعاطي أو تناول سما أو موادا أخرى أدت إلى الوفاة. كما يتم أيضا فحص الملابس التي وجدت عليها للاستعانة بها في تحديد الشبهة الجنائية من عدمها، وتجرى لها تحليل الحمض النووي لمقارنته بأحماض الأحياء الذين يأتون للبحث عن أحد أفراد عائلتهم المفقود. مسار طويل لجثامين مجهولة فيما يقوم الخبراء برفع بصمات اليدين وإرسالها لمصالح الأحوال المدنية مع الإستعانة بأجهزة الإعلام الآلي للتدقيق في هذا الشأن. وفي جانب آخر يتم تصويرها في أكثر من جانب مع اتخاذ اجراءات النشر في الأماكن المخول بها، وإخطار مكتب البلاغات لاتخاذ اجراءات النشر الخاصة بصور الجثة وتعميمها على مكاتب الجمهورية. وفي حال ظهور أهل الشخص المتوفى، تتم إجراءات تسليمه لهم لكن في حالة العكس وبعد مرور الزمن القانوني يتم إعلام النيابة العامة التي تصدر ترخيصا بالدفن. وفي جانب آخر فإن بعض المستشفيات تعمد إلى العمل بالتنسيق مع الجهات الأمنية، فتأخذ عينة من بصمة المريض الذي يدخل في غيبوبة قبل وفاته وبذلك يتم تحديد هويته. ومع كل هذا يطالب العارفون بمجال الطب الشرعي بضرورة وضع استراتيجية وطنية، يتم العمل بها وتكون بمثابة خارطة طريق في حال حدوث كوارث طبيعية، يكون فيها التنسيق بين مختلف القطاعات من أجل التسيير الأنجع للوضع، ما يسمح للطب الشرعي بالتدخل الفوري لتحديد هوية الجثث قبل دفنها.