دأب الصديقان سامي كليب، وفيصل جلول، منذ فترة غير وجيزة، على إصدار سلسلة من الكتب التي تتصدر عناوينها كلمة "الرسائل". ومؤخرًا، أشرفا على إصدار "الرسائل اللبنانية: قرن من القلق بين الانتداب والتحرير" (بيروت: دار نوفل هاشيت أنطوان، 2022، 394 صفحة). وهذا هو الكتاب السادس في تلك السلسلة، فقد سبقته "الرسائل الدمشقية"، و"الرسائل المغربية"، و"الرسائل الخليجية"، علاوة على "فلسطين في مئويتها الثانية"، و"باريس كما يراها العرب". وقد قُيض لهذا الكتاب المهم أن يصدر بُعيد الذكرى المئوية لإعلان الجنرال غورو تأسيس "دولة لبنان الكبير" في 1/9/1920، ليشكل إضاءة كاشفة على تاريخ هذا البلد المفعم بالخرافات التاريخية، وبالحكايات الهاذية، عن فرادة هذا البلد، وعلى التحولات التي خضع لها الكيان اللبناني منذ تأسيسه. ويتضمن الكتاب بحوثًا معمّقة في مشكلات لبنان القديمة والجارية، خصوصًا منذ إعلان استقلاله عن فرنسا في سنة 1943. كما يحتوي دراسات حاولت ابتداع أفكار جديدة، أو جريئة نسبيًا، ربما تتيح، مع غيرها من الأفكار، صوغ سُبُل للخروج من الشرنقة التي عَلِق فيها لبنان واللبنانيون، ومعهم السوريون والفلسطينيون في الدرجة الأولى. والكتاب مجموعة من البحوث متعددة الأصوات ذات ميول مختلفة واتجاهات متنوعة. وقد شارك في بحوث الكتاب كل من: سامي كليب، وفيصل جلول، وعبد الله نعمان، ومسعود ضاهر، وصقر أبو فخر، وريم بزيع، ويونس أبو أيوب، ونايلة ناصر، وعبد الحليم فضل الله، وعقيل سعيد محفوض، وميشال رامبو، وهو سفير فرنسي سابق في السودان، وربما يمتّ بقرابة ما مع الشاعر رامبو. ويضم الكتاب، فضلًا عن ذلك، نصوصًا ينتمي بعضها إلى أواخر أربعينيات القرن العشرين (جورج نقاش)، وبعضها إلى عام 1970 (كمال يوسف الحاج)، ولم نعثر على أي نص لميشال شيحا، وجواد بولس، اللذين أُدرجا في قائمة المؤلفين. ..لبنان هو المشكلة تنغمس النخب اللبنانية اليوم، متنورة كانت، أو طائفية، أو سياسية، أو غير ذلك، في التفتيش عن حلول لمشكلات لبنان. وعبثًا يحاولون، لأن لبنان في ذاته كان مشكلة منذ أن أُسس على النحو المعروف، أي بلصق مناطق من هنا وهناك بجبل لبنان، وتكبيره بالقوة، ولا أحد اليوم يريد أن يمد أصابعه إلى عش الدبابير هذا. ولا ريب أن صعود ديناميات التفكك في لبنان على أسس مذهبية يجعل البحث عن حلول للمشكلات اللبنانية مسألة عويصة جدًا كمن يفتش في غرفة مظلمة عن قطة سوداء غير موجودة في الأصل. ومن غير الممكن السير جديًا في محاولة العثور على حلول للمشكلات اللبنانية إلا بالتخلص من الخرافات التأسيسية التي صاغها المنظرون الطائفيون، أمثال جورج نقاش، وميشال شيحا، وفؤاد أفرام البستاني، وجواد بولس، وغرسوها بعناية في الوعي العام اللبناني، بدءًا من الحكايات الفينيقية عن قرطاج وقدموس، وليس انتهاء بفخر الدين المعني. وأخال أن كثيرًا من اللبنانيين تخلوا من زمن غير قريب عن عبارات مثل "لبنان الرسالة"، و"لبنانسويسرا الشرق"، و"عروس المتوسط"، و"الطراز الفريد"، و"النظام الديمقراطي الوحيد في العالم العربي"؛ فالنظام السياسي اللبناني لم يكن، ولا مرة منذ استقلاله، ديمقراطيًا، لكنه امتاز عن النظم السياسية المجاورة في العالم العربي بشيوع الحريات في أرجائه. وتلك الحريات لم تكن شأنًا أصيلًا، أو أمرًا تأسيسيًا، بل كان مصدرها تعدد طوائفه المتناحرة، وكان لا بد أن تكون لكل طائفة منابرها الخاصة. إذا كان كتاب "الرسائل اللبنانية" محاولة جدية لمقاربة الواقع اللبناني، فإن إرادة الخروج من قواقع الطوائف لا تبدو قوية في لبنان، خلافًا لرؤى المشاركين والمشاركات في تأليف هذا الكتاب، ونقيضًا لتطلعهم إلى لبنان جديد، وخلافًا للقصد الراقي الذي تحلى به سامي كليب، وفيصل جلول، اللذان يعرفان جيدًا أن اللبنانيين، منذ سنة 1920، حتى خراب لبنان في سنة 2020، لم يتمكنوا من بناء دولة، أو وطن، أو هوية جامعة، وظل لبنان حتى بعد مئة سنة على تأسيسه مجرد مساحة من الأرض تعيش فوقها جماعات متناحرة حينًا، ومتآلفة حينًا آخر؛ يتسالمون في حِقَب الازدهار، ويتهارشون في زمن الانحسار، ويتناحرون في زمن القحط. ولا ريب عندي أن النخب المتعلمة اللبنانية، إلا القليل منها، أسوأ من زعمائها الطائفيين. وهذا ما برهنت عليه الاحتجاجات التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانتهت إلى صراعات وانقسامات على غرار صراعات المجتمع اللبناني وانقساماته، وإلى لا شيء، وهو ما يعاند ويعاكس ويناقض الأفكار الراقية والمستقبلية التي احتواها الكتاب.