فعلت العنوسة فعلتها في أبناء الجزائر، بعد أن تعدّى شبحها الإناث ليطال الذكور أيضا، فالزّواج الذي كان من حق كل شاب وشابة صار عملة صعبة على أيامنا، وفرسان الأحلام شحت إمكاناتهم وصاروا يبلغون من العمر عتيّا قبل أن يقبلوا على إتمام نصف الدين.
أشارت دراسة عربية حديثة أنجزت في بحر 2015، أنّ أكثر من 4 ملايين شاب جزائري فوق سن الأربعين، لم يدخلوا قفص الحياة الزوجية بعد، وبهذا العدد المرعب احتلت الجزائر المرتبة الأولى من حيث عزوف الشباب عن الزواج، وبلغت عنوسة الفتيات هي الأخرى في الجزائر مستويات قياسية، وطالت كل شرائح الفتيات خلال العقد الأخير، لأسباب كثيرة ومتداخلة منها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ومنها تلك التي تتعلق بتعليم الفتاة وخروجها إلى ميادين العمل في مسار إثبات الذات وتحقيق الاستقلالية والمساواة، وإن كانت الأسباب تختلف حسب البيئة والشريحة وسن دخول الفتاة إلى جمهورية العوانس، إلا أن لا خلاف اليوم على أن العنوسة باتت مقبرة ل 5 ملايين فتاة جزائرية دفن شبابهن في انتظار عرسان لم يصلوا، منهن أكثر من مليونين حكم عليهن بالعنوسة المؤبدة.
* فتيات يخترن شيوخ "الأورو" على العنوسة
وبسبب استفحال العنوسة وتخوف الصغيرة من اللحاق بقطارها قبل الكبيرة، تغيرت ذهنيات الكثير من الفتيات وصار القبول بأي خطيب يتقدم للزواج أمرا واقعا لكل من تسعى لتطليق العزوبية، بل إن شعار الكثيرات اليوم هو "نجرب حظي" أو "نجيب طفل لعوقبتي" حتى ولو آل مصير الزواج إلى الطلاق بعد فترة قصيرة من الارتباط، ومن هنا حللت الكثيرات لأنفسهن اصطياد رجال مرتبطين، متزوجين أو آباء.. لافرق. ومن هنا أيضا، بات الزواج برجال ما فوق الستين أمرا عاديا جدا، بل موضة، خاصة في الأرياف حيث يخطب الأولياء على أيامنا لبناتهم اللواتي تجاوزن سقف ال 35 أو الأربعين، كهولا فقدوا زوجاتهم، خاصة إذا كانوا من أصحاب منح التقاعد التي تدفعها فرنسا بالأورو.
الزواج من الشيوخ أصحاب الأورو صار ظاهرة في مجتمعنا، خاصة أن عدد المتقاعدين الجزائريين الذين قضوا سنوات الخدمة بفرنسا يعد بالآلاف، هؤلاء الذين باتوا هدفا للفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج لا يخفون ذلك، بل يتحدثون فيما بينهم عن الفرص التي تلقونها من شابات في سن الثلاثين والأربعين.
الشيخ عمار.. أحد هؤلاء الذين يتقاضون منحة التقاعد بالأورو، يقول إنه لم يكن يعتقد بأنه سيأتي اليوم الذي يعرض عليه فتيات أنفسهن للزواج وقد بلغ من العمر 69 سنة، ورغم أنه يدرك السبب جيدا، إلا أنه يرى بأن لا مانع من فكرة الزواج، خاصة أن زوجته كبيرة في السن ومريضة، كما أنها لم تعد تفي باحتياجاته وطلباته، ويضيف أنه أخبر زوجته مؤخرا بأنه يفكر في الزواج بأخرى فلم تعارض طالما أنه سيوفر للثانية بيتا مستقلا بعيدا عنها وتبقى هي في الفيلا رفقة ولديها، كما أنها اشترطت عليه أن يكتب لابنيها الميراث قبل الزواج حتى لا تتزوجه الثانية على طمع أو تفكر في الإنجاب من أجل الميراث. أما العروس التي استقر عليها الشيخ عمار فلا تتجاوز ال 37 من عمرها ولم يسبق لها الزواج.
باية.. فتاة أخرى من ضواحي العاصمة تجاوزت ال 37 دون أن تتزوج، وهوما اعتبره أهلها وأقاربها نهاية العالم، ولم تتردد والدتها في عرضها على شيخ من بلدتها بمجرد أن فقد زوجته لأنه متقاعد ويتقاضى مرتبه بالأورو، على أساس أنه حتى ولو توفى وتركها في نصف المشوار فسوف تعيش حياة كريمة بمرتبه. لم تعارض باية ما فعلته والدتها وقالت إن نظيراتها يتهافتن على الزواج منه، لكنهن لا يملكن الجرأة على الإقدام على ما فعلته أمها الحريصة على مستقبلها. وعن فارق السن لم تبد أي تذمر، لأنها، حسب قولها، يئست من الارتباط بأحد من سنها أو حتى أعزب يفوقها سنا، لأن الشباب الجزائري مهما بلغوا من العمر يختارون فتيات صغيرات لا يتجاوزن العشرين. وفي كل الأحوال تضيف باية : الزواج بشيخ أحسن من البوار مدى الحياة، والناس في مجتمعنا لا يعيبون الفتاة التي تتزوج رجلا كبيرا في السن، بينما يزدرون الفتاة التي لا تتزوج.
وطرحت باية قضية حساسة جدا تمس كل الفتيات العوانس قائلة : "أفكر يوم يغادر والدي الحياة، ساعتها سأبقى خادمة لدى إخوتي وزوجاتهم، أربي أولادهم ولا أسمع حتى كلمة شكر، خاصة أني ماكثة بالبيت، فلو كنت عاملة ومثقفة لكان الأمر أهون. أما والدتها، فاعتبرت مثل هذه الزيجة صفقة، لأن المتقاعدين الذين يتقاضون منحهم بالأورو صاروا هدفا للكثير من الفتيات حتى اللواتي لم يفتهن قطار الزواج.
* "وأخريات يتقدم لخطبتهن مجانين وذوو عاهات"
غالبا ما تتجرأ بعض العائلات على خطبة الفتاة العانس لأبنائها المعوقين أو حتى المختلين عقليا، لاعتقاد مسبق بأنها لم يعد لديها الخيار ويمكنها أن ترضى بالقليل، في حين تقبل بعض العوانس بالأمر الواقع وتعتبر أخريات مجرد عرض مثل هذا الزواج عليهن إهانة لها لا يقبلنها.
وهو حال فتيحة التي بلغت من العمر 45 سنة قبل أن تتزوج مؤخرا، وهي التي عرفت دوما برفعها شعار "زوج كما يحب خاطري وإلا أبقى دون زواج مدى الحياة" وهذا بعد أن تقدمت إحدى العائلات تخطبها لابنها الذي يبلغ نفس سنها، لكنه مريض بفصام في الشخصية ولا يستغني عن الأدوية، وحالته متأخرة بعد أن عانى من المرض قرابة عشرين سنة، ولا أمل في شفائه، وكل ما في الأمر أن والدته خشيت أن تموت وتتركه لوحده ففكرت في تزويجه حفيظة التي تجاوز سنها الأربعين، وبالتالي فلن ترفض، بل وأكثر من ذلك اعتبروا أنهم صنعوا لها جميلا بالتقدم لخطبتها لابنهم. وقد نصحها محيطها بالقبول به على أساس المعتقد الشعبي الذي يقول "زوجه يبرأ" وهو ما يدفع غالبا بالعائلات بتجريب الزواج للشباب المرضى كحل أخير لعلهم يستعيدون توازنهم الداخلي، لكن حفيظة ورغم تعاطفها مع الشاب رفضت، خاصة بعد سماعها التعليقات التي تصب كلها في اتجاه واحد "ليس لديها خيار آخر" وانتظرت أربع سنوات أخرى حتى حضر من اقتنعت به وكان أعزبا مثلها يبلغ ال 47 من العمر..
وكان لها ما أرادته، لكن حظ حفيظة لم تحظ به الأخريات اللواتي يقدرن بالملايين اليوم ولسان حالهم يلوم الرجال الذين لا يقصدون إلا الفتاة الصغيرة ويعتبرون أمثالهن قد دخلن الأرشيف، بهذه العبارة اشتكت لنا سعاد 39 سنة حالها، وهي الفتاة التي حظيت طيلة حياتها بحظ في العرسان الذين تقدموا لها في سن معينة، لكنها رفضتهم الواحد تلو الآخر، وفي كل مرة كانت ترفض فيها عريسا تنتظر في قرارة نفسها أن يأتي الذي أحسن منه إلى أن جاء اليوم الذي انقطع عنها العرسان، خاصة بعد أن شاع في الحي وبين الأهل والزملاء أنها متكبرة وشروطها كبيرة. أما اليوم فهي نادمة وتقول إنها أضاعت الفرص والوقت، خاصة عندما تلتقي بصديقات الطفولة فتجدهن سيدات متزوجات وأمهات منذ زمن. أما الآن وقد أوشكت على بلوغ الأربعين تروي سعاد أنها تقدم لها كهل مطلق ويعول طفليه بعد أن تخلت عنهما والدتهما وتزوجت. وتقول إنها شعرت بالصدمة بعد أن تقدم لها شخص مطلق بلغ الخمسين، وصدمت أكثر لأن والديها أبديا موافقتهما عليه خوفا من أن لا يتقدم غيره في المستقبل ويحكم عليها بالعنوسة المؤبدة، خاصة وهم يرون فتيات كثيرات في الحي والعائلة بلغن الخمسين وتجاوزنه دون ارتباط. المهم أنها وجدت نفسها -كما تقول- مضطرة للقبول، خاصة أن العريس سيوفر لها بيتا، بينما الشباب أغلبهم عازفون عن الزواج بسبب أزمة السكن.
* "بعضهن وقعن فريسة نصب واحتيال" وإن كانت بعض العوانس راضيات بالأمر الواقع من باب الرضا بالقسمة والنصيب، فإن بعضهن الآخر تمردن على واقعهن وحاولن الخروج من النفق المظلم بأي ثمن فوقعن فريسة نصابين ومحتالين استغلوا ظروفهن أسوأ استغلال وعرضوهن لأسوأ أنواع الابتزاز المادي والجسدي تحت غطاء الوعود بالزواج. وقد سبق أن أوقفت العدالة عدة محتالين من هذا النوع تسببوا في أضرار معنوية وجسدية لفتيات يائسات من ضياع سنوات العمر هباء. ومن هؤلاء سكينة التي بلغت الخمسين من عمرها، لكنها تمردت على واقعها، وأعلنت أنها لن يهدأ لها بال حتى تجد من سيقاسمها أيامها الباقية. هي ليست فتاة أمية، بل مثقفة وعلى قدر من الجمال، إذ لا يمكن لمن لا يعرفها أن يصدق بأنها بلغت الخمسين، تعرفت على شاب لا يتجاوز الخامسة والثلاثين، أغرته بإمكاناتها المادية فمثل عليها الحب والهيام ليتمكن من الاستيلاء على ما تملك شيئا فشيئا، أعمى الحب عينيها فسلمت له مفاتيح قلبها ورصيدها البنكي الذي كونته بتعب سنين طويلة، حين كان همها الوحيد تأمين نفسها ماديا قبل أن تستيقظ على كابوس اسمه العنوسة، لكن لم يمض وقت طويل حتى أفاقت على كابوس أفظع ف"عبده" الذي سلمته رقبتها نصب عليها واستولى على كل ما تمكن منه ثم فر هاربا إلى أن ألقي القبض عليه بتهمة النصب والاحتيال وسرقة أموال ومجوهرات سكينة ثم الهرب بعد قراءة فاتحتها مع شقيقها، هذه حال ملايين من فتيات الجزائر حرمتهن الظروف من تحقيق أمل كان إلى وقت قريب حقا مطلقا لكل الناس. ح/سامية