كنا إلى وقت غير بعيد نستمع إلى صوت القرقابو الذي يجوب الشوارع والأحياء لجمع الزيارة كما يسمونها، وهي طريقة من طرق جمع المال من طرف مجموعة من الأشخاص من مختلف الأعمار لهم تاريخ في هذا المجال، بحكم أن السيدات لا يتوانين عن رمي الدنانير من الشرفات ليلتقطه أحد أفراد المجموعة، إلا أن الظاهرة الجديدة التي اكتسحت الشوارع مؤخرا، هي دخول المزود أو العزف التقليدي القبائلي الذي بدا منافسا قويا لفرق القرقابو، حيث لا تكل مجموعة من الشباب من العزف طوال النهار لجمع الصدقات من المارة، ويتعداه الأمر في بعض الأحيان إلى الوقوف لوقت طويل أمام المقاهي والصالونات لعزف مقطوعات كاملة وجمع أكبر قدر من الصدقات من المحسنين. هو أسلوب جديد يضاف إلى الأساليب التقليدية المختلفة، التي اعتاد عليها الجزائري من أشخاص يجيدون فنون الحيلة واستجداء القلوب والجيوب أمام الأرصفة وأبواب البنوك والمحلات التجارية والمساجد والحافلات وحتى محلات الفاست فود أو المخبرات، إلا أن الجديد القديم الذي تحمله عناصر المتسولين بالمزود، هو الإصرار على أخد بعض الدنانير من خلال النظرات الثاقبة التي يوجهها إليك المكلف بجمع المال في صحن، حيث ينظر إليك باستغراب شديد إذا رفضت دفع يديك إلى الجيب لالتقاط بعض الدنانير، والجدير بالذكر أن أعضاء فرقة المزود يرتدون ملابس نظيفة ويعزفون بأسلوب يروق الكثير من الأشخاص التفاعل معه، خصوصا أنه يعكس نوعا من التراث الموسيقي القبائلي المشبع بالحيوية، وهو الأمر الذي شبهه العديد من مرتادي مقاهي البريد المركزي بالتسول على الطريقة الغربية، حيث يقدم المتسول ألحانا عذبة نظير المال، إلا أن القاسم المشترك بين المتسولين التقليديين وهؤلاء، هو أن كليهما لا يدعك تمر سالما، ويظل يلح عليك بنظراته ودعواته التي تنقطع فور إظهارك الرفض أو عدم التعاطي مع الموضوع، وفي كل يوم يضاف متسول جديد إلى القائمة ليحتل رصيفا أو أي مكان يراه أنسب للاسترزاق، قد يكون ذكرا آو أنثى وقد يكون بمفرده أو مصحوبا بطفل يقاسمه المكان للتأثير عليك بكل الطرق، حيث يمارس هؤلاء ضغطا نفسيا على المارة من أصحاب القلوب الرحيمة الذين يرون في وضعهم وإلحاحهم حاجة حقيقية، كون العاطفة تلعب لعبتها السحرية فيجد الشخص نفسه مضطرا إلى الانصياع وإخراج ما في الجيب لمرضاة الله، خصوصا أن الآية الكريمة صريحة " وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث"، إلا آن المعرفة الوجيهة للسائل الحقيقي هي غير الممكنة، فلكل أداؤه وأسلوبه لإقناع الناس كي يمدوا أيديهم إلى جيوبهم ويخرجوا منها ما هو مقسوم لأولئك، وهنا تلعب الاحترافية دورها، وهناك نوع يتميز بالفضاضة حيث يظهر جليا أنه يمارس فنون الغباء المغلف، مثل الأشخاص الذين يصعدون يوميا نفس الحافلة ويقولون أنهم على أهبه السفر ولم يجدوا ما يكفل ثمن السفر الذي لا يتفانى المحسنون في تقديمه كل حسب مقدوره، وتراه يكرر المشهد في ذات الحافلة، فإذا ساعفك الحظ وكنت من راكبيها ستعرف آليا أنه متسول محترف يبتز الجيوب بدغدغة العواطف، ولا تنقص الحيلة في هذا المجال، فقد اختلق هؤلاء أكثر من أسلوب لا يسعنا المجال لذكرها كلها، كما أن الذكاء الجزائري اختبر هذا النوع من الممارسات، بدليل أن الكثير من الأشخاص فقدوا الثقة كليا في المتسولين، لكن الغرابة تكمن في الوقاحة التي يتميز بها البعض منهم، حيث يقف عند وجهك أكثر من ثلاث مرات ويعيد طرح نفس الكلمات على مسمعك، ونذكر هنا امرأة متوسطة العمر تحمل قفة فارغة دوما وكلما جلست إلى جانب شخص في الحافلة أخبرته أنها بصدد زيارة مريض يرقد في المستشفى وقد اشتهى نوعا من الفواكه الموسمية كالعنب صيفا، والبرتقال شتاء وغيرها من الفواكه، وغالبا ما تكرر المطلب لذات الشخص بعد شهور حتى أن احدهم رد عليها معلقا "منذ صيف السنة الماضية لم يشف مريضك بعد". ممارسات مشينة تحمل في طياتها كل مظاهر الاستفزاز واستنزاف الجيوب والعواطف، جعلت الجزائري حائرا حزينا عند رفضه أن يكون فريسة سهلة لقناصي الجيوب، وفي ذات الوقت يتأسف لوجود محتاج حقيقي لا يستطيع مساعدته.