ينقسم الاسم في اللغة العربية إلى قسمين: الأول الاسم الظاهر، وهو ما دلَّ على معناه من غير قرينة ك(زيد - الفرس)، والقسم الثاني الاسم المضمر وهو ما دلَّ على معناه بقرينة من تكلم أو خطاب أو غيبة ك(أنا _ أنت - هو). وهذه الضمائر إما أن تدلَّ على متكلم ك(أنا - نحن) وإما أن تدلَّ على مخاطب ك(أنتَ- أنتِ- أنتما- أنتم- أنتنَّ) وإما أن تدلَّ على غائب ك(هو- وهي- وهما- وهم- وهنَّ). ومن الضمائر ما يتصل بالأسماء ك(كتابي- كتابك- كتابه) ومنها ما يتصل بالأفعال ك(ضرَبتُم _ ضرَبكم _ ضرَبَهم)، ومنها ما يتصل بالحروف ك(علينا- عليك- عليه). والأصل في هذه الضمائر أن تستخدم في مواضعها، فمن كان متكلماً عن نفسه أو عن جماعة يستخدم ضمائر المتكلم، ومن كان يخاطب شخصاً يستخدم ضمائر المخاطب، ومن كان يتحدث عن غائبٍ يستخدم ضمائر الغيبة. وقد يخرج المتكلم عن هذه الأصل لغرض بلاغي، فيستخدم ضمير الغائب وهو يخاطب حاضراً، أو ضمير المخاطب وهو يتحدث عن شخص غائب. وهذا يعرف عند أهل البلاغة بالالتفات. أمثلة قرآنية ومن الأمثلة القرآنية التي توضح هذه الظاهرة قول الله عزَّ وجل: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونَنَّ من الشاكرين)، (يونس 22). إن المتأمل في هذه الآية يلاحظ أنها بدأت بضمائر الخطاب في قوله تعالى: (يسيركم - كنتم) ثم تحول الأسلوب إلى الكلام عن الغائبين وذلك في قوله تعالى (جرين بهم) و(جاءهم الموج) و(وظنوا أنهم أحيط بهم)، ولو جرى الكلام على الظاهر لكان على النحو الآتي: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها جاءكم ريح عاصف وجاءكم الموج من كل مكان وظننتم أنكم أحيط بكم. (فما السرُّ في هذا الالتفات؟!). دليل الإعراض ذهب بعض المفسرين إلى القول إن الانتقال في الكلام من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة يدل على الإعراض عن المخاطب، قال الفخر الرازي في تفسيره: (فهاهنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، وذلك يدلُّ على المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كانت صفته أن يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه) انتهى كلامه. وذهب بعضهم إلى القول إنَّ هؤلاء قد حضرت قلوبهم وأقبلوا على الله عزَّ وجل عندما كانوا في بداية الرحلة، لأنهم خافوا الهلاك وتقلب الرياح، فناداهم نداء الحاضرين، ثم إن الرياح لما جرت بما تشتهي النفوس وأمنت الهلاك لم يبقَ حضورهم وإقبالهم على الله عزَّ وجل، فناسب ذلك الإعراض عنهم والتحدث عنهم بضمير الغائبين. وذهب فريق آخر إلى القول إن فائدة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم ليتعجبوا من فعلهم وكفرهم، ولو استمر في خطابهم لفاتت تلك الفائدة. من الغيبة إلى الخطاب ومن الأمثلة على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب قول الله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزَّكى) (عبس1-3). يمكننا أن نلاحظ هنا مجيء التعبير عن النبي عليه الصلاة والسلام بضمير الغائب في أول السورة، من خلال الضمير الغائب المستتر بعد الفعل (عبس)، وهاء الضمير في قوله تعالى: (أن جاءه الأعمى)، ثم جاء الانتقال إلى كاف الخطاب في قوله تعالى: (وما يدريك). فما السر في هذا الالتفات؟! إن استعمال صيغة الغائب فيه تلطف بالنبي عليه الصلاة والسلام، خصوصاً أنَّ عبوس النبي عليه السلام وإعراضه عن ابن أم مكتوم، كان سببه رغبته في إسلام صناديد قريش فيسلم بإسلامهم كثير من الناس. وبعد الإتيان بضمير الغائب أصبح الطريق ممهداً للتصريح بالمقصود من الخطاب، فجاء قوله تعالى: (وما يدريك) أي يا محمد - صلى الله عليه وسلم - (لعله يزَّكى) يعني ابن أم مكتوم رضي الله عنه. وفي هذا المعنى قال الطاهر بن عاشور: (ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم، ليقع العتاب في نفسه مدرجاً، وذلك أهون وقعاً) انتهى كلامه.