تعد مجلة بونة للبحوث والدراسات،التي تصدر عن مؤسسة بونة للبحوث والدراسات بمدينة عنابة، واحدة من المجلات الجزائرية و العربية البارزة ، وقد امتازت بحضورها على الساحة الثقافية بمواضيعها وأبحاثها العميقة والجادة التي تمازج بين الأصالة والمعاصرة،لتضمن التواؤم بين القديم والجديد. وقد خصص العدد الثاني من المجلة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين،وقد كتب فيه عدد كبير من الباحثين،والعلماء المتميزين. وقد أشار الدكتور مرتاض إلى العوامل التي حددها الشيخ محمّد البشير الإبراهيميّ،والتي كانت سبباً في نشأة الجمعية : 1 -آثار الشّيخ محمّد عبده؛ وذلك بطريقة المعارضة الشّديدة من الفقهاء الجزائريّين المتزمّتين لأفكاره التي كانت تتسرّب إلى الجزائر بواسطة مجلّة » المنار« 2 -» الثورة التّعليميّة التي أحدثها الأستاذ الشّيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحيّة « ؛ 3 -» التّطوّر الفكريّ الذي طرأ على عقول النّاس في عقابيل الحرب العالميّة الأولى « 4 -» إيَاب طائفة من المثقّفين الجزائريّين الذين كانوا يعيشون في المشرق العربيّ، ولا سيّما في الحجاز والشّام، وأبرزهم الإبراهيميّ، والعقبيّ « . ويضيف الدكتور مرتاض إلى العوامل التي حددها الشيخ الإبراهيمي عوامل أخرى،فيقول: »وأمّا نحن فنودّ أن نضيف إلى هذه العوامل الأربعة التي ذكرها الإبراهيميّ، والتي نسلّم بها، ثلاثة عواملَ أخرى؛ قد لا تقلّ أهمّيّة عن الأربعة؛ وهي: 1 -اشتداد تأثير الحركات الصّوفيّة بالجزائر، وازدياد نشاطها، وتكاثر طرائقها حتّى جاوزت العَشرَ، وحتّى اكتسحت جميع المدن والقرى، بل البوادي أيضا، في الجزائر، فأمست تصول وتجول، فلم يكن شيءٌ يُتداول بين مستنيري النّاس غير الفكر الصّوفيّ الذي لا يجاوز سِيَر الشّيوخ وكراماتهم؛ وميل أهل التّصوّف، من عوامّهم خصوصاً، إلى الإغراق في الرّوحيّات، والكلَف الشّديد بالخوض في أمور الغيب على سبيل اليقين، والتّعلّق المثير بمَشاهد البَرَكة والمناقب والكرامات. 2 -اشتداد شراسة الاستعمار الفرنسيّ، ومبالغته في محاربة اللّغة العربيّة والدّين الإسلاميّ والتّمكين للتّخلّف الذهنيّ والشّعْبَذة لدى النّاس، وتشجيع ممارسات وطقوس فلكلوريّة ليست من الدّين الصّحيح في شيء: إلى حدّ الهوَس. 3 -شيوع الجهل بين عامّة الجزائريّين حيث كانت الأمّيّة تجاوز ثمانين في المائة في أوساط الجزائريّين من الذكور، وربما كانت تجاوز تسعين في المائة في أوساط الجزائريّات. ولذلك نجد الأستاذ المرحوم محمّد إبراهيم الكتّانيّ الذي كان شديد الإعجاب بالحركة الإصلاحيّة في الجزائر فكان لا يزال يتحدّث عنها بتقدير وإعجاب لطلاّبه بجامعة الرّباط : يُرَاعُ للحالة التي كان الجزائريّون عليها في العِقد الرّابع من القرن العشرين (وقد ازدار الجزائرَ عام خمسة وثلاثين وتسعمائة وألف) حين يقول: » شاهدت من تعاسة المسلمين ودينهم ولغتهم ما لم أكن أتصوّر أنّ الحالة وصلت إلى معشاره: جهل باللّغة العربيّة فظيع، وطمْس لمعالم الدّين « ومجتمعٌ مثلُ هذا شأنُه من التّخلّف والانحطاط التّعليميّ الفكريّ، ومن شُهود المتناقضات الطّبَقيّة، وتفاوُت مستويات الحياة فيه، بحيث كانت تتراوح بين وجود معمّرين أغنياء يتجشّؤون كِظَّةً، متطوّرين يعيشون في المستويات العليا من الرّغَد والبحبوحة، ويقطُنون أنظف المدن شوارعَ، وأنضَرِها حدائقَ؛ وجزائريّين فقراء يتضوّرون مسغبة، جُهلاءَ يعيشون في الدّرَك الأسفل من الْمُعاناة والشّظَف والحرمان؛ فكانوا يَشْقَوْن في أعماق الأودية السّحيقة وقمم الجبال الجرداء، والأحراش الجدباء: كان ذلك كلّه لا ريبَ ممّا يدعو أيَّ مفكّر مستنير وجريء إلى البحث عن تجاوُز المحنة، والْتماس سبل الإصلاح. وهي خصوصيّة لم توجد في أيّ مجتمع عربيّ إسلاميّ آخر غير المجتمع الجزائريّ. وإلى اليوم لا تزال ترسّبات باقية من تلك التّناقضات وألوان الشّقاء التي كان يكابدها الشّعب الجزائريّ في بعض حياته الاجتماعيّة. فليس الإفلاتُ من الشّقاء الطّويل بالأمر الهَيْنِ. وليس عذاب الاستعمار مجرّدَ طعامٍ غير سائغٍ يمكن لأيّ شعبٍ التّهَوُّعُ منه متى شاء. وعلى أن علاّل الفاسيّ كان يرى أنّ الحركتين الإصلاحيّتين، الجزائريّة والمغربيّة، تقومان على أسُس واحدة، كما كانتا تسْعَيَان إلى تحقيق إلى أهداف واحدة؛ وتمثُل هذه الأهداف خصوصاً في محاربة الشّعوذة، والدّعوة إلى الاستدلال والانتقاد والتّفكير، والرّجوع بالشّريعة الإسلاميّة إلى أصولها الأولى«. و اختتم الدكتور عبد الملك مرتاض مقاله بتقديم مجموعة من الملاحظات الهامة،إذ جاء في ختام مقاله: »ويمكن أن نستخلص ممّا سبق أنّنا حين كنّا زعمنا أنّ حركة جمعيّة العلماء ربما كانت أنجح الحركات الإسلاميّة في بلوغ بعض غاياتها فبما كان لنا من بُرْهانَاتٍ على ذلك، وقد أنَى لنا ذِكْرُ بعضها هنا في ختام هذه الدّراسة : 1 -أنّ جمعيّة العلماء أسّست مدارس كثيرة بلغ تَعدادُها عام خمسة وخمسين وتسعمائة وألف أربعمائة مدرسةٍ عصريّة لتدريس العربيّة، ومبادئ الفقه الإسلاميّ على الطّريقة التّجديديّة للحركات السّلفيّة الإسلاميّة، والرّياضيّات، والجغرافيا والتّاريخ. وبلغ عدد معلّميها في السّنة نفسِها قريباً من سبعمائة معلّمٍ، على حين بلغ عدد تلامذتها زهاء خمسة وسبعين ألف تلميذ ، ولم ينهض بهذا الإنجاز الكبير أيٌّ من الحركاتِ التّجديديّة في العالم الإسلاميّ: مشرقاً ومغرباً؛ 2 -أنّ جمعيّة العلماء أصدرت صحفاً عربيّة وفرنسيّة كانت تنافح من خلالها عن مبادئ الإصلاح فكان لها الصّراط، والشّريعة، والسّنّة، والبصائر الأولى ,1939 /1935 ثم الثانية 1947-1956 ، بالإضافة إلى بعض النّشريّات باللّغة الفرنسيّة. فكان الفرنسيّون كلّما عطّلوا صحيفة من صُحفها جاءت هي إلى عنوان جديد فأصدرته لينضح عن المبدأ نفسه، ولينشر الأفكارَ الإصلاحيّة نفسَها. 3 -أن جمعيّة العلماء أسّست، بالإضافة إلى عدد كبير من المدارس الابتدائيّة التي كانت الدّراسة تنتهي فيها بالحصول على الشّهادة الابتدائيّة باللّغة العربيّة، معهداً للدّراسات الثانويّة بقسنطينة، بلغ عدد طلاّبه عام 1954 تسعمائة وثلاثة عشر طالباً : بكلّ ما كان يتطلّب ذلك من إيجاد أساتذة أكفاء، وبرامج تعليميّة تنويريّة، ودار للطّلبة (داخليّة ضخمة). فكان الطّلبة الحاصلون على الشّهادة الأهليّة منه ينخرطون في الجامعات المشرقيّة. والحقّ أنّ المدارس العربيّة الحرّة كثيراً ما كانت تتعرّض للتّغليق بحكم مرسوم ثامن مارس 1938 الذي يعني مضمونه، سياسيّاً، القضاء على اللّغة العربيّة في الجزائر بالتّضييق الشّديد على معلّمي العربيّة ومُحَفِّظي القرآن، كما يذهب إلى ذلك المؤرّخون الفرنسيّون أنفسُهم . وعلى الرّغم من كلّ ذلك فقد بلغ عددها عام 1954 مائةً وإحدى وثمانين مدرسةً، ولم يقلّ عدد تلاميذها عن أربعين ألفاً . غير أنّنا كنّا رأينا أنّ الأرقام التي يذكرها الشّيخ محمّد البشير الإبراهيمي، على أساس عام 1955 هي أكثر بكثير ممّا ذكر روبير أجيرون. ولا يسعنا هنا إلاّ أن نميل إلى العمل بإحصائيّة الشّيخ، لأنّه في ذلك هو صاحب الشّأن الأوّل، ومصدر المعلومة التّاريخيّة ì4 أنّ جمعيّة العلماء لم تجتزئ بذلك حتّى أرسلت عدداً كثيراً من الطّلاّب الجزائريّين في بعثات علميّة إلى المشرق العربيّ، وخصوصاً إلى مصر وسورية والكويت والعراق، لتلقّي التّعليم الجامعيّ العالي من أجل إعداد نَشْءٍ لتحمّل أعباء المستقبل -عهد الاستقلال-؛ 5 -أنّ ذلك كلّه كان يتطلّب توفير ميزانيّة ضخمة: رواتب المعلّمين والأساتذة، وإصدار الصّحف، والإنفاق على المباني الضّخمة (مثل معهد ابن باديس، ودار الطّلبة بقسنطينة وقد كانا مِلْكاً لها)، وتنقّل الأساتذة والشّخصيّات المنتمين إلى الجمعيّة في الدّاخل والخارجì ويعني ذلك أنّ جمعيّة العلماء هي المؤسّسة الأولى والوحيدة، على مستوى العالم الإسلاميّ، التي استطاعت أن تمتلك وسائلَ مادّيّة -بنايات ومنشَآت كثيرة-، ووسائل ماليّة -صندوقاً مسيَّراً تسييراً عصريّا..-، وجهازاً إداريّاً : كتّاباً إداريّين، ومكاتب، وتجهيزات مكتبيّة -فكان أحمد رضا حوحو مثلاً هو الأمين العامّ لمعهد ابن باديس-؛ فذلك، إذن، ذلك«. ¯ يتبع