رئيس الجمهورية يؤكد أن السيادة الوطنية تصان بجيش قوي واقتصاد متطور: الجزائر دولة مسالمة و من اعتدى عليها فقد ظلم نفسه    يخص منطقتي أولاد جلال وسيدي خالد: السلطات تستعجل إنهاء مشروع تدعيم توزيع المياه    تحسبا لموسم الاصطياف بسكيكدة: حملات نظافة مكثّفة وتعليمات بإنهاء مشاريع التهيئة    القمة الإفريقية للأسمدة وصحة التربة بنيروبي: تبني مقترح الجزائر بشأن دعم منتجي الغاز    سكنات عدل: توزيع حوالي 40 ألف وحدة بالعاصمة في الذكرى 62 للاستقلال    بمبادرة من الجزائر: مجلس الأمن يدعو إلى تحقيقات مستقلة في المقابر الجماعية بغزة    بهدف ترقية تسييرها وتوفير خدمات ذات جودة عالية: الحكومة تدرس التدابير المتعلقة بالاستغلال السياحي للشواطئ    رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يؤكد: الاقتصاد الوطني في تطور مستمر وسيشهد قفزة في 2027    تفادى ذكر الريال و"تغافل" عن اسم الخليفي: مبابي يودّع باريس سان جيرمان    قسنطينة: توقيف متهميْن في قضية مخدرات    بمبادرة جزائرية.. مجلس الأمن يدعو لفتح تحقيق مستقلّ في المجازر الجماعية بغزة    الجزائر ستواصل جهودها بمجلس الأمن لتكريس عضوية فلسطين بالأمم المتحدة    «وتتوالى الإنجازات».. انتصارات متتالية للدبلوماسية الجزائرية    تسريع وتيرة العمل لتسليم منشآت هامة    انطلاق البكالوريا التجريبية بنفس إجراءات الامتحانات الرسمية    الجزائر الجديدة هي المشروع الوطني الذي يجسد طموحنا    خطوة مهمة تعزّز الحق الفلسطيني    الاحتلال الصهيوني يجبر الفلسطينيين على إخلاء مناطق جديدة في رفح    الرئاسيات المقبلة محطة هامة لتجسيد طموحات الجزائريين    2027 سنة الإقلاع الاقتصادي    إحصاء شامل لمليون و200 ألف مستثمرة فلاحية    "عدل 3" بمسابح وملاعب وعمارات ب 20 طابقا    تركيا تكشف عن حجم التجارة مع الجزائر    إعذار مقاول ومكتب متابعة منطقة النشاط بسكيكدة    البنايات الهشة خطر داهم والأسواق الفوضوية مشكل بلا حل    الكشف عن وثيقة تاريخية نادرة    بشكتاش التركي يحسم مستقبل غزال نهائيا    شايبي يحلم بدوري الأبطال ويتحسر على "كان 2025"    دراجات/الجائزة الكبرى لمدينة وهران: فوز الجزائري نسيم سعيدي بالسباق    ألعاب القوى/البطولة العربية لأقل من 20 سنة: 10 ميداليات جديدة للجزائر، منها أربع ذهبيات    مختبر "سيال" يحافظ على اعتماده بمعايير "إيزو 17025"    ريال مدريد ينهي خلافه مع مبابي    التزام ثابت للدولة بترقية الخدمات الصحية بالجنوب    إجراء مباراة مولودية وهران اتحاد العاصمة يوم 21 ماي    عمورة ينال جائزة أفضل لاعب إفريقي في بلجيكا    بنك الاتحاد الجزائري بموريتانيا : إطلاق نافذة الاسلامية لتسويق 4 منتجات بنكية    حفريات "قصر بغاي".. الأربعاء المقبل    أولاد جلال تحتضن بسمات الأطفال    بلمهدي يشارك بإسطنبول في اللقاء العالمي لحوار العلماء المسلمين    الجلفة : معرض الكتاب "الجلفة نبض الابداع" يفتتح هذا الأربعاء    نستالجيا تراثية.. تظاهرة ثقافية لاستحضار واستذكار أهم الألعاب الشعبية    لقاء بمركز المحفوظات الوطنية حول مجازر 8 مايو 1945    مفهوم النهضة في الغرب مسكون بحقبته الكولونيالية    العائلات لا تولي أهمية لبرامج الرقابة الأبوية    لا تشتر الدواء دون وصفة طبية    صدور القانون المتعلق بالصناعة السينماتوغرافية في الجريدة الرسمية    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الجمعة بالنسبة لمطار الجزائر العاصمة    رسالة من سلطان عُمان إلى الرئيس تبّون    قطاع الري سطّر سلم أولويات لتنفيذ البرنامج    الجزائر مستمرة في نضالها من أجل الشعب الفلسطيني    انطلاق مشاريع صحية جديدة بقالمة    ملتقى حول "التراث الثقافي المخطوط"    استحسن التسهيلات المقدمة من السلطات : وفد برلماني يقف على نقائص المؤسسات الصحية بقسنطينة في مهمة استعلامية    اللّي يَحسبْ وحْدُو!!    التوحيد: معناه، وفَضْله، وأقْسامُه    أفضل ما تدعو به في الثلث الأخير من الليل    هول كرب الميزان    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرّ الأبواب الزرقاء! - إطلالة على بيت مالك حدّاد -
نشر في الجزائر نيوز يوم 05 - 07 - 2010

الساعة التاسعة من يوم الجمعة 4 جوان ,2010 قسنطينة تذكّر بزلزال الطاهر وطار· مدينة الجسور والأرصفة الضيقة تقف على أناملها، حركة مجهرية وتهوي إلى وادي الرمال· وهناك تحت الثلمة الأروقة المقنطرة التي تغنّي بها أنريكو· من هنا مرّ ابن باديس ومحمد الطاهر فرقاني وأحلام مستغنامي وآخرون·
السويقة، سيدي مسيد، حيّ النحاسين· تبدّلت قسنطينة ومحت من العيون القديمة إحالات: النعناع والحمص والصينيات والأثاث الذي كان ذا معنى·
لا تمثل المدن بالنسبة إليّ سوى مرجعيات وعلامات ممتلئة وأصدقاء يؤثثون خواءها العظيم، لا أدري إن كان صديقي الروائي الحبيب السايح قد انتبه إلى عيناي الفارغتين ونحن في سيارة الأجرة قاصدين بيت مالك حدّاد·
لم أعد أفهم هذه المدن التي لا تحبّ الزعتر، طعم الجمعة وموسيقى الباعة والورد، لا تتذكر تاريخها وكتّابها وعفويّتها وحكايات الأجداد·
من حسن الحظ أنّ الأديب جمال فوغالي، المدير الولائي للثقافة، بخِفّته وحضوره وبشاشته ومعرفته، صنع ألق تلك الأيام المخصصة لمالك حداد، في طبعة جديدة أكثر احترافية وتنظيما·
في الطريق من العاصمة إلى قسنطينة رفقة الحبيب السايح فكّرت في أشياء كثيرة· أنا والحبيب لا نتحدّث في الثقافة عندما نسافر معا، نتجنب الفكر النووي والرواية والسياسة والعلوم الخطيرة، وعادة ما كنّا نترك الجبال تتكلّم، هي والتلال والرّمل والحلفاء وترنيمة الخلق، كنّا نملأ المسافة بقليل من النميمة الممتعة·
فكّرت في لقاء الأستاذ الروائي جمال علي خوجة (ابن أخت مالك حدّاد)، والسيد نديم (ابن مالك حدّاد)، وما تيسّر من أصدقاء الرّاحل· بيد أنّ زيارة بيت الفقيد هي التي ظلت تتبوّأ· وهذه فرصة· يجب أن أعرف أين كان يكتب، تلك الأماكن والأشياء الصغيرة لها مذاق البلاغة وذكريات الحبر والورق·
يتطلّب الصعود إلى الضاحية أو الربض (فوبور)، مرورا بحارة أنريكو ماسياس والمشفى والعمارات المنكبة على وجهها بانتظار الهزة، وفي يوم حار، التحلي بالقلق اللازم لمواجهة صمت المدينة وكسلها في ذلك الصباح الفاتر كجملة مكرّرة آلاف المرّات·
السائق لا يعرف العنوان والحارة ومالك حدّاد· هناك أشياء أخرى يعرفها، اهتمامات أخرى أكثر جدوى، أمّا كاتب في حجم صاحب رائعة التلميذ والدّرس فليس بمقدوره إعالة أحد· مالك حدّاد ليس لاعبا، مجرّد كائن يفكّر ويكتب روايات وأشعارا مثيرة·
عبثا حاولنا أنا والسايح أن نسأل المارة علّ أحدا يدلّنا على البيت· غريبة هذه الذاكرة التي لا تحتفظ بأسماء أبنائها الميامين، لقد حدث لي ذلك مرارا وأنا أبحث في المدن الجزائرية عن آثار الإبراهيمي ومحمّد العيد آل خليفة وفندق أندري جيد وعلامات الكاهنة وأولئك الذين منحوا للمساحة والمكان معنى، وللتاريخ أيضا·
وبعد لأي وصلنا، دلّنا على البيت رجل نحيل يشبه كتابا أو جريدة أو مقطعا موسيقيا· كان واضحا من تقاسيمه وشكل خطاه النحيلة أنّ له اهتمامات ثقافية أو أدبية·
الشارع الصغير يرتدي أزهارا ونباتات· كان شارعا أوروبيا هادئا ووقورا، مثل تلك الشوارع التي ماتت قبل سنين بفعل غزوات الإسمنت والأكياس والقمامات والعقول الممتلئة بالحجارة والربح السريع·
في هذا الشارع أقام مالك حدّاد· مازال ظلّه يخرج كلّ مساء ليجوّل أفكاره الحزينة وصوّره ودخان سجائره ومرضه اللعين· كنت أعرف أنّي سأجد أبوابا زرقاء كما في عهده· علمت ذلك من السيّد جمال·
كان السيّد جمال علي خوجة أمينا للّون الذي أحبّه خاله· أمّا أنا فأحسست بأنّ اللون خانق ومأساوي، لا أدري لماذا، كما أنّي لم أعرف إحساس مرافقي الأديب الحبيب السايح الذي ظل صامتا، مع أنّ أعماقه كانت تتكلّم بهدوء· ربّما كانت تتساءل مثلي عن هذا الخيار الغريب الذي ينثر فيك برودة العالم وموته·
لم أجد علاقة واضحة بين كتابات مالك حدّاد وبين هذه العلامة غير اللغوية، ربّما كانت تحيل على وضع نفسيّ ما، خاصة وأنّه كان يعرف أنّ نهايته وشيكة· ذلك المرض يتعذّر علاجه، مستحيل·
على حائط مدخل الدارة نباتات نجت من مفعول العقل الحديث، كانت تتدلّى مزهوّة بانتمائها إلى تلك المساحة التي شهدت ميلاد صفحات من الألق، مع أنّ مالك حدّاد كان يميل إلى الخريف الذي أشار إليه في الانطباع الأخير· الخريف صديق يشبهه، يفكّر مثله، ومثله يتواضع أمام الزمن والحركة، هذا الفصل من سلالة التعساء، لكنّه يعرف نفسه، يدرك لون النّهايات·
لم أسأل الأستاذ جمال علي خوجة عن تاريخ ميلاد الورد والعشب· كنت أعرف بالحدس والملاحظة والقراءة والمتابعة أن ذلك الحيّ له نواميسه، أمّا مالك حدّاد فله حسّ آخر، حياة أخرى ومتاعب مختلفة ومريرة، مريرة جدّا·
هاتفت الروائي ونحن في مدخل الدارة· ردّ عليّ بلغته الفرنسية التي ورثها· ثواني قليلة كانت تفصلنا عن قاعة الاستقبال· وها نحن هناك، في بيت ذلك الذي عاش غريبا في ألفاظ الآخرين قبل أن يقرّر التوقّف عن الكتابة، قبل أن يدفن إلى الأبد ما كان يريد قوله، وقبل أن يدفن أيضا·
لم نشعر إطلاقا بأن الأستاذ جمال يتحدّث بلغة أخرى، كان يسرد بيديه وحركاته وعلامات الوجه· وبين هذا وذاك كان يوظف قليلا من العامية· كانت فرنسيته باللغة العربية الفصحى· هكذا خيّل إليّ، ولا أدري كيف تخيلته نسخة من خاله· لابدّ أنّها نسخة معدّلة بشكل ما، ولكنّها رائقة·
لم يصمد جدار اللغة بيننا، وكنّا نحن المعربين نستمتع بقوّة سرده وبتلك التفاصيل التي لم ترد في الكتب، وقد لا تظهر أبدا· هناك فترات من حياة مالك حدّاد لا أحد يعرفها· وقد تكون نائمة قربه تحت التراب، هو الذي أوصى قبل رحيله بأن يكتب على شاهدة قبره: هنا يستريح مالك حدّاد· وكان الأمر كذلك·
في الحائط الذي يقابلني صورتا والديه، ماتت والدته بعد سنة من رحيله· لقد ترك لها هدية مهمة: المصحف· لم أر صورة زوجته التي كانت سندا له في رحلته الأدبية· لعلّ العادات القسنطينية لا تسمح· ذاك مجرّد تأويل، تلك المرأة لعبت دورا مهمّا في حياته، كما أخبرنا، الرّاوي· كانت قارئة نهمة ومثقّفة من ذلك النوع الكلاسيكي الذي انقرض وحلّ محلّه مثقف الانترنيت والمثقف الذي لا يقرأ كتابا واحدا في السنة ومثقف السندويتش·
قال الشاهد فيما قاله: كان الفنّان يحب رمضان ويوصي باحترامه· لأنّه كان يراه مقدّسا وجميلا، وكان يحاول دائما أن يتعلّم العربية، والدواعي كثيرة، وأهمّها المواقف العنصرية للمستعمر· ولعلّ ذلك ما سيؤثّر لاحقا في شخصيته ليتخذ قراره: التوقف عن الكتابة بلغة الآخرين· أمّا أنا فقلت في سرّي: لكنّنا قد نجد أسبابا أخرى يمكن استنتاجها من كتابه: الأصفار تراوح مكانها، ومن كتاب الانطباع الأخير، ومن مؤلفات أخرى أسّست عل التلميح وسبّبت له متاعب لا تعدّ·
قال السيد جمال: كان الرئيس هواري بومدين يحبّ خاله، وكان يحدّثه· ماذا كان يقول؟ قد نعثر في وقت ما على مذكّرات الرّاحل، وتلك مسألة أخرى·
وقال: كان يكتب في المطبخ والغرفة والصالون· وهذه طاولته· يكتب ويدخن ويقرأ الأشعار ويمزق· وفي الصباح أفتّش في سلّة المهملات فأعثر على قصائد رائعة· لا أدري لماذا كان يهملها رغم جودتها، كان شخصا غريبا·
تأمّلت طاولة مالك حدّاد المطلّة على الشارع الذاهب إلى الصمت مرفقا بذكرياته الكثيرة· طاولة مستطيلة متناغمة مع أثاث البيت، الخزانة والكراسي البنيّة القديمة، الإطارات· تلك العلامات الدافئة التي لها ذاكرة وحنين، كم أصبحت يتيمة!
هناك أماكن وأشياء في وجودنا لها نكهتها الخاصة رغم بساطتها، لكنها رائعة لأنّها تذكّرك بأمر ما، بشخص أو بقيمة مجرّدة، بجزء هام من نسيج كيانك وشخصيتك، ذلك الجزء الخابي وراء طبقات النسيان·
طاولة مالك حدّاد ليست جمادا، الكراسي الأربعة كذلك، المزهرية النحاسية، الحيطان الغافية، الصّوان· لابدّ أنّها شخصيات تخبئ أسرارا كثيرة، هي التي رافقت وحدة الفنان في ليالي الصمت والأرق والبحث عن الصوّر البعيدة· لقد حفظتها الآن، حفظتها عن ظهر قلب·
لو لم يكن جمال خوجة روائيا لجعلته كذلك رغما عنه· ربما ورث عن خاله سحر الحكي، طريقة السرد بالجملة والإيماءة، بالصمت والمشهد والتوقف والتوازن الكلّي أثناء الحديث· كان نعمة حقيقيّة· هل يجب أن أذكّر بحلويات شرقنا والقهوة التي وضعتها زوجته أمامنا؟ شكرا على الضيافة·
ثمّة زاوية أخرى للاكتشاف· يقود باب الصالون إلى شرفة مطلة على حديقة وما يشبه القبو، غرفة صغير بنافذة صغيرة وباب زرقاوين، هناك كان يعتزل مالك حدّاد، يجلس مع المرض الذي لازمه سنين· بدا لي في تلك اللحظة أنه زاهد أو متصوّف في الأسواق البشرية المسعورة·
والحال أني اكتشفت ذلك من خلال نصوصه· تصوّرت المكان منذ أعوام، وأعتقد أنّه مكان مثالي للذي فهم الوقت والناس، عزلة داخل عزلة وحياة على الورق، في الذهن والقيّم· لا غير· أمّا السّفاسف فهناك من يهتمّ بها، هناك السطحيون والمتهافتون على القمامات، وهم كثر· يلزم الإنسان الكبير قبو أو قبر، في حين يحتاج الصغار إلى مزيد من القصور والصدقة غير الجارية·
بدا لي أنّ مالك حدّاد فهم ذلك قبل الوقت، قبل الواحد والخمسين سنة التي عاشها متنقلا بين المدن والبلدان والقارات، وأكبر الظن أنّنا مازلنا نحسده على هذا التمزّق، وعلى موته كذلك، وأيّ موت!
تلك صورة قفزت إلى البال، مجرّد إحساس انتابني وأنا أتأمّل الغرفة البسيطة المنزوية في أطراف الحديقة مثل هامش مقهور، أو مثل كوخ خائف من الثرثرة ومن البشر ''الأذكياء جدّا''، أولئك الذين يقفزون على كلّ الفرص، ما عدا القناعة والحكمة·
لم أعرف في أيّ شيء كان يفكّر الحبيب السايح· لم أسأله· قرأت له لاحقا ما كتبه عن الزيارة في الجزائر نيوز، وأعتقد انّه كتب شيئا رائعا، قصيدة أو سمفونية بلغته الاستثنائية، تاركا لي إكمال البقية، أو المتن بتعبيره الدقيق·
كيف كان يعيش الفنان في تلك العزلة؟ لابدّ أنّها حالة ملل أو حالة لا جدوى، إن لم تكن حالة صوفية حقيقية· بالنسبة لي قد تكون الحالات الثلاث مجتمعة، ذاك ما فهته ممّا لم يقله ابن أخته· في كتبه إحالات على المرارة بطريقة شاعرية راقية· هناك أمور كثيرة تنبض في ألفاظه وصوّره وجمله وأفكاره، وهي أمور ستكلّفه غاليا· لهذه العزلة مبرّرات أخرى: قناعاته، مواقفه، مبادئه، تصوّراته المفارقة للمعيار، للأيديولوجية اليابسة، وهناك موقف الآخر منه·
كان لموقف الآخر منه أثر في حياة مالك حدّاد· لقد كان هذا الآخر عبئا عليه، حتى في أواخر نهاراته ظلّ يحس بالجفاء· لم يكن على ما يرام· لقد أحبّ البلد بطريقته، في حين كان عليه أن يحبّها وفق منظور الآخر، على المقاس·
لا شيء يفسر تلك العزلة سوى التجربة الحالكة التي أنتجت إبداعا من الصوف والفراشات والعدول الدائم عن الجملة السردية، عن الوصف، عن التصوير وعن الحياة قاطبة· لقد ظل يشبه نفسه كثيرا·
مالك حدّاد من ذلك النوع الذي يعيش كما يكتب، لا توجد مسافة بينه وبين الحبر· نسمي ذلك في السيمياء الصدق أو الحقيقة· لست متأكدا من قدرات النقد الأدبي وصدقه في مراحل مخصوصة· أكيد أنه يحتاج إلى نظارات طبية حتى يبصر ما حوله، دون مفاضلة تحتكم إلى العمى·
يبدو لي أن السيد جمال علي خوجة من تلك السلالة التي لا تتنكّر، لا ينكر فضل خاله· قال لنا كان يتصدق كثيرا، تلك إحدى ميزاته التي ظلت لصيقة به، وما كان يولي أهمية للأموال· وتعلّمت منه قضايا لا تعدّ·
في الشرفة، هناك قرب الكوخ لامست السلحفاة قدمي أو لامستها· أنا أعتذر لك ولها· أنا أيضا أحب السلاحف والحلازين والحشرات وأوراق الخريف التي ودّعت الدنيا· كانت لي سلحفاة وقط وعصافير وأرنبان وحجل قبل أن يحلّ الخراب، قبل أن تفتح البئر فمها·
السايح أيضا يحبّ هذه المخلوقات اللطيفة التي تؤثث بؤسنا بشيء من الحضور المختلف· تحدّثنا مرارا عن الطيور والنباتات والحشرات والعقرب· لا تقلق إذن، كان خالك يقظا، وكان ينظر إليها بعين أخرى، بتبجيل وأناقة من يعرف موسيقى الخلق والدنيا، لأن من لا يعرف قيمة الطير والنبتة لن يدرك نبض البلاغة، سيعيش فقيرا وجائعا، مثل الغربال· الغربال أيضا لا يشبع، لا يحافظ على القوت، ولن يستطيع ذلك لأنّه لا يعي حقيقته التعيسة· الغربال يلفظ الدقيق ويحتفظ بالنخالة· وكم من غربال في هذا المحيط الصاخب!
لم أسأله عن اسم السلحفاة وحزبها· فضّلت أن أعرف الأوقات التي يكتب فيها مالك بدل الحديث في القضايا السياسية المنفّرة·
ليلا· إلى الثالثة أو الرابعة صباحا· وكانت علاقته بالعائلة موسيقية، وبالمحيط كذلك· قليل الكلام· المطبخ أفضل حيّز للكتابة· سيجارة وراء أخرى، هناك كتب تلك السعادات الصغيرة الشبيهة بحبات الأرز· هناك وعلى الطاولة التي ليست مكتبا بالمعنى الحقيقي· المكاتب للآخرين، لأولئك الذين يكتبون الإفلاس تحت أنقاض الاجتماعات والتواطؤات·
لم أجد في البيت كتب مالك حدّاد، لا أثر لها· قد تكون محفوظة في جهة ما، وكانت صورته تتأملنا بعينين متعبتين· لازال يكتب إذن، أو لعلّه يراجع الفضاء، فضاءه الذي استضافنا بأناقة الشاعر الذي سكنه الوطن· وربما كان يعاتبنا· وهذا من حقّه·
شبّهت البيت ببيوت الكتاب الأوروبيين، باهت ومسنّ، وفيه كآبة ما، شيء من ظلال الفناء ورائحة الموت، رغم الشمس المتلصصة من خلل النافذة والشرفة، بتردّد وخجل·
كان ابن أخته مندهشا من اهتمامنا، نحن المعربين، بكتاب مفرنس، ولم نكن بحاجة إلى التنبيه إلى المغالطة· الوردة لا تحتاج إلى لغة لتقول لك إنّي جميلة، كما الياسمين والماء وصباح الخير والراية التي ترافقك، مهما ابتعدت·
وهذا الكاتب من دمنا، من ذوينا، من أهلنا وأقاربنا ومن أرضنا التي كان يجفّف ألمها بحبر النسغ والخلايا، له فضل علينا ودين للردّ عاجلا أو عاجلا·
كذلك فكّرت لحظتها، وقد يكون هذا الموقف هو نفسه موقف الحبيب السايح الذي طالما تحدّثت معه عن هذا الكاتب الفريد، بيد أنّ النقد، لكنّ الجامعة، غير أنّ الناس والأصدقاء· إلى غير ذلك من الأسئلة التي لن تنتهي اليوم وغدا·
هل نسيت شيئا؟ نعم· نسيت كثيرا وأغفلت أشياء· قدّم لي الأستاذ جمال رسالة كتبها له خاله قبل ستين سنة، بخط يده، وبفرنسية بسيطة، من ذلك النوع الذي نعثر عليه عند بائع الزهور عندما يكون مسرورا· لاحظت أنه شطب بعض الكلمات· لعلّها لم تعجبه· صحيح، هناك كلمات كثيرة يجب أن تخرج من حقل الإبداع، خاصة عندما لا نجد لها إيقاعا دالاّ· ثمّة ألفاظ تعتدي على الجملة العزلاء وتحدث صخبا ورعبا· ألفاظ من الصلب أو من الاسمنت المسلّح· أنا أسميها ممهلات وحفرا، وإذا كثرت في النص فستخرج منه مرهقا وجريحا، غير صالح للاستعمال·
سألنا الولد الذي كبر عن مسودات مالك حدّاد· لقد ترك مخطوطات وكتابات أخرى، محاولات ومذكرات تكون موزّعة هنا وهناك· ربّما لم يكتمل بعضها· لكنّها موجودة عند بعض أصدقائه ممن عرفهم في البلد وفي اتحاد الكتاب·
ما نوعها؟ يعلم الخالق بذلك· هناك موروث يختبئ في جهة ما، قد يصل إلى القارئ في وقت ما، وقد تأكله الرطوبة ويلفه النسيان الأعظم· أمّا أجمل شيء يمكن تقديمه للرجل فيتمثل في إعادة اكتشافه، لأنّه مهم وخارق بطريقته، بأشكاله السردية، كما هي، بآرائه الفلسفية، بمواقفه الجمالية ومواقفه من الحياة والموت والناس والموضوعات·
صورة أخرى للبيت، للطّاولة، للرّسالة، لذلك القبو الذي شهد عزلته، للأزهار الغافية، للشارع والحارة ولنا· مرّت ساعتان من العلامات التي من قطن الخليقة·
هناك أوقات تريد شطبها من دفتر العمر، وهناك أوقات تريد أن تحياها مرّة ثانية وعاشرة لأنّك خلقت من أجلها· أمّا أن تعرف بيت كاتب مثل قوس قزح، ثم تتعرّف على عالمه، فتلك لحظات وجب وضعها في إطار بارز لرؤيتها كلّ صباح عندما تستيقظ من كوابيسك، من ظلام الواقع، من فلسفة الأمعاء·
اقترحنا على المعنيين في قسنطينة جمع أعمال الكاتب ومخطوطاته وما كتب عنه من أبحاث أكاديمية ومقالات صحفية، وتحويل بيته إلى متحف· كانت تلك توصية من التوصيات·
أمّا أنت أيّها البيت فسلاما عليك، وسلاما على العلامات التي تؤثّثك، وعلى طلائك الأزرق الحزين، سأبحث عن سرّ لون الأبواب· سلاما على أناقة الكاتب جمال علي خوجة حارسا على بوّابة الظل، وعلى أناقة الحبيب السائح في جلسته وفي استيعاب المضمرات دون أسئلة، هل فهمت أشياء أخرى؟ السماع هو الوجه الآخر للبلاغة في هذا الوقت الذي أفسده الكلام والهرولة·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.