"الجزائر شريك استراتيجي في التعاون الإفريقي: الفرص وآفاق التعزيز" محور ملتقى بالجزائر العاصمة    بن طالب يبرز جهود الدولة في مجال تخفيض مستويات البطالة لدى فئة الشباب    عون: الملكية الفكرية حماية وضمان لنمو وازدهار الابتكار    وزير الاتصال : الصحافة كانت مرافقة للثورة في المقاومة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي    الرابطة الأولى: تعادل اتحاد الجزائر مع شبيبة القبائل (2-2)    بن مبارك يشيد بدور الإعلام الوطني    دعوة إلى تعزيز التعاون في عدّة مجالات    تنصيب مدير عام جديد أشغال العمومية    خطوة كبيرة لتكريس الرقمنة    ماذا بقي في رفح؟    كريكو تبرز جهود القطاع في تعزيز المرافقة النفسية    قوجيل يستقبل رئيس الجمعية الوطنية للكونغو    فيلم فلسطيني يثير مشاعر الجمهور    وزير الاتّصال يكرّم إعلاميين بارزين    الجزائر تصنع 70 بالمائة من احتياجاتها الصيدلانية    السفير الفلسطيني فايز أبوعيطة يؤكد: الجزائر تتصدر المعركة السياسية للاعتراف بالدولة الفلسطينية    رئيس الجمعية الوطنية لجمهورية الكونغو: الجزائر تشهد تطورا على كافة المستويات    وزير الداخلية يؤكد من خنشلة: الرئيس يعمل على تغيير الأوضاع وتحصين البلاد    سطيف: حجز 383 غراما من الكوكايين و11 ألف قرص مهلوس    زيدان يحدد موقفه النهائي من تدريب بايرن ميونخ    سريع الحروش ثالث النازلين: نجم هنشير تومغني رسميا في جهوي قسنطينة الأول    تعزيز المرافقة النفسية لذوي الاحتياجات الخاصة    "حماس" تبلغ الوسطاء القطريين والمصريين بالموافقة على مقترحهم بشأن وقف إطلاق النار في غزة    ضبط كل الإجراءات لضمان التكفل الأمثل بالحجاج    الحماية المدنية..عيون ساهرة وآذان صاغية لمواجهة أيّ طارئ    صادرات الجزائر من الإسمنت 747 مليون دولار في 2023    توجيه 435 ألف مستفيد من منحة البطالة نحو عروض عمل    حقوقيون يدعّمون المعتقلين المناهضين للتطبيع    الشهداء الفلسطينيون عنوان للتحرّر    رفع الحجم الساعي للتربية البدنية السنة المقبلة    النخبة الوطنية تنهي المنافسة في المركز الثالث    "هولسيم الجزائر" تركب ألواحا شمسة بموقع الإنتاج    سياسة التشغيل ضمن سياسات التنمية الشاملة في الجزائر    تهيئة مباني جامعة وهران المصنفة ضمن التراث المحمي    "الطيارة الصفراء".. إحياء لذاكرة المرأة الجزائرية    50 مصمّمة تعرضن الأزياء الجزائرية.. هذا الخميس    تعاون أكاديمي بين جامعة الجزائر وجامعة أرجنتينية    حجز 134 كيلوغرام من اللحوم فاسدة    المرصد العربي لحقوق الإنسان: إجتياح جيش الإحتلال الصهيوني لرفح "جريمة بحق الإنسانية"    "حصى سيدي أحمد".. عندما تتحوّل الحصى إلى أسطورة    بلبشير يبدي استعداده لتمديد بقائه على رأس الفريق    بيتكوفيتش يأمل في عودة عطال قبل تربص جوان    مدرب سانت جيلواز يثني على عمورة ويدافع عنه    "نمط إستهلاكي يستهوي الجزائريين    الإطاحة بمروج المهلوسات    تفكيك خمس عصابات مكونة من 34 فردا    الصناعات الصيدلانية : الإنتاج المحلي يلبي أزيد من 70 بالمائة من الاحتياجات الوطنية    وزير الصحة يشرف على آخر لقاء لفائدة بعثة حج موسم 2024    دراجات/طواف الجزائر-2024/: عودة نادي مولودية الجزائر للمشاركة في المنافسة بعد غياب طويل    500 موقع للترويج لدعاية المخزن    بلمهدي يحثّ على الالتزام بالمرجعية الدينية    قدمها الدكتور جليد قادة بالمكتبة الوطنية..ندوة "سؤال العقل والتاريخ" ضمن منتدى الكتاب    تعريفات حول النقطة.. الألف.. والباء    الشريعة الإسلامية كانت سباقة أتاحت حرية التعبير    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زوربا اليوناني.. من الكلمة إلى الصورة
نشر في الأيام الجزائرية يوم 28 - 03 - 2015


*بهاء بن نوار
5تعنى هذه الدراسة باستجلاء عمل أدبيّ كتبه الأديب اليوناني "كازانتزاكيس" (Kazantzakis) عنوانه: (زوربا اليوناني)؛ تحوّل إلى فيلم سينمائيّ شهير سنة 1964 كان "أنطوني كوين" (Anthony Quinn) بطله، وتحوّل أيضا إلى عرض باليه عالميّ، أبدع الموسيقار اليوناني "ثيودراكيس" (Theodorakis) ومصمّم الرقصات الإيطالي لوركا ماسين (Macine) في صياغة مشاهده، ولوحاته. وما يعنيني هو تلمّس جماليّات عرض الباليه هذا، وتتبّع لوحاته الراقصة مع مقارنتها بأصلها الأول: العمل المكتوب، ومحاولة الإجابة عن بعض الإشكاليّات، يتعلق لأغلبها بفكرة الاقتباس (Adaptation) والتحويل (Transformation).
– لماذا نقتبس عملا أدبيّا ما؟
– ما هي المقوّمات التي تجعل من هذا العمل قابلا للاقتباس؟
– ما الذي أضافته لغة الجسد والموسيقى إلى لغة الكلمات؟
– ماذا عن التشكيلات اللونيّة والصوتيّة والحركيّة؟ وما أثرها في إثراء هذا العمل:"زوربا"؟
– هل حافظ هذا العمل الجديد المرئيّ؛ أعني الباليه على الأفكار والرؤى الفلسفية العميقة التي عجّت بها الرواية؟
وللإجابة عن هذه الإشكاليات لا بدّ من إلقاء نظرة على فن الباليه (Ballet) الذي اشتقت تسميته من الفعل الإيطالي (Ballare) بمعنى رقص، والذي امتدت جذوره الأولى إلى عهد النهضة الثقافية في إيطاليا، حيث استخدم الأرستقراطيّون الفنون وسيلة للتباهي والازدهاء، وكان الرقص أحد هذه الفنون المتنافس عليها، وظهرت وظيفة جديدة في القصور؛ هي وظيفة "أستاذ الرقص". وفي القرن الخامس عشر جاء الملك الفرنسي "شارل الثامن" بجيشه إلى إيطاليا، وفوجئ باكتشاف رقص الباليه، فجلب هذا الفن، والفنانين الإيطاليّين إلى فرنسا. وأصبح رقص الباليه جزءا مهمّا في حياة القصر الفرنسيّ في القرن السابع عشر، وعشقه الملك "لويس الرابع عشر" حتى أنه لعب أدوار البطولة في ست وعشرين رقصة باليه ضخمة. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر خرج فن الباليه من القصور، وصعد خشبات المسرح، وأصبح فنا مسرحيّا وشعبيّا.
وما يلحظ على عروض الباليه هذه أن أغلبها يُقتبس من أعمال أدبية، ويستقي أحداثه ومشاهده المرئيّة من أحداث ومشاهد أخرى مكتوبة. ومن بين عروض الباليه المستوحاة من أعمال أدبية أذكر: "باليه دون كيشوت" (Ballet Don Quichotte)المستوحى من قصة دون كيشوت لسرفانتس (Cervantes)، وباليه "روميو وجولييت " (Romeo et Juliette)المأخوذ عن مسرحيّة شكسبير(Shakespeare) الشهيرة، وعرض أزميرالدا وكازيمودو(Esméralda et Quasimodo) المأخوذ عن رائعة فيكتور هوغو(Victor Hugo) أحدب نوتردام (Notre Dame De Paris)، وباليه "شهرزاد"(Schéhérazade) الذي أعدّ موسيقاه كورساكوف (Korsakov) والمستوحى من ليالي ألف ليلة وليلة العربية، وغيرها. وثمة أعمال أدبية كثيرة تحوّلت إلى أعمال أوبرالية؛ كرائعتي شكسبير: "ماكبث"(Macbeth) و"عطيل" (Othello) اللتين أبدع فردي (Verdi) في صياغة حركاتهما الصوتية، و"أوبرا لابوهيم" أو"البوهيمية" (La bohême) التي اقتبسها جاكومو بوتشيني (Giacomo Puccini) من رواية " حياة البوهيمية " (La vie de bohême ) لهنري ميرجيه (Henri Murger)، وأوبرا كارمن (Carmen) التي استلهمها جورج بيزيه (Georges Bizet) من قصة للكاتب الفرنسي بروسبير ميريميه (Prosper Mérimée) تحمل العنوان نفسه، وأوبرا "لعنة فاوست" (La Damnation De Faust) التي وضعها برليوز (Berlioz) بعد اطلاعه على رائعة جوته (Goethe)، وأوبرا سالومي (Salomé) التي استلهمها شتراوس (Strauss) من مسرحيّة سالومي لأوسكار وايلد (Oscar Wilde) والتي استلهمها هذا الأخير من القصة التوراتيّة الشهيرة.. وغيرها. وهناك عروض باليه أخرى وأعمال أوبرالية كثيرة استوحيت من قصص شعبية، وسير شخصيات تاريخية معروفة ، كباليه "سندرلا (Cinderella) المستوحى من القصة المعروفة لدينا جميعا، وعروض: "بحيرة البجع" (Swan Lake) و"الجمال النائم (Sleeping Beauty)، و"كسّارة البندق (The Nutcracker) التي أبدع موسيقاها تشايكوفسكي(Tchaikovesky). و"باليه سبارتاكوس"(Spartakus) المستوحى من قصة الثائر العظيم سبارتاكوس، وأوبرا "تريستان وإيزولد" (Tristan et Isolde) التي استوحاها فاغنر (Wagner) من قصة الحبيبين الشهيرين، وأوبرا "الناي السحري" (La Flute Enchantée) التي استلهمها موزار (Mozart) من القصة الشعبية المعروفة، وغيرها…
وما يعنينا هو تلك العروض المستوحاة من أعمال أدبية خالدة، والتي تطرح أسئلة كثيرة، تتعلق جميعها بضرورة استجلاء العلاقة الوثيقة بين عمل فنيّ مكتوب نسيجه أجساد حبريّة منطبعة في فضاء أبيض مستوي التضاريس هو فضاء الورقة، وعمل فني آخر نسيجه حركات جسدية شديدة التوهّج والديمومة، ترافقها أصوات موسيقية تتوزع بين عزف الآلات، وإنشاد الجوقة والكورال (Coral)، تحاكي ما تضمنه العمل الأدبي المكتوب من مشاهد وأحداث، وتختزل كثيرا من أفكاره ورؤاه الفلسفية العميقة، التي يحاول الجسد في رقصه وحركاته الإيقاعية المرسومة هضمها وامتصاصها، والإيحاء إلى متلقيه بها. وثمة إشكالان جوهريّان تثيرهما عملية التحويل هذه، يتعلق أولهما بمدى تمكّن العمل البصري من استيعاب طاقات العمل المكتوب، وهي مسألة نسبية، يختلف تقديرها من متلق إلى آخر اختلاف درجات تلقي العمل المكتوب نفسه من قارئ إلى آخر. أما الإشكال الثاني، وهو لا يقل جوهرية عن سابقه، فيتعلق بأسباب الصلة الوثقى بين تلك الأعمال السمعية البصريّة وأصولها الأخرى المكتوبة؛ فالسؤال الذي يثار في ذهن متلقي العملين هو: لماذا يستوحي أغلب الموسيقيين ومصمّمو الرقصات عروضهم من أعمال أدبية: ما سرّ توهّج الكلمات وانفتاحها المطلق على عالم الرقص والألحان؟
ولعلّ أكثر الأجوبة إقناعا يرجع إلى ما حققته وتحققه أعمال مكتوبة عديدة من نجاحات وانتشار واسع، تصدر معه طبعات كثيرة منها، وتترجم أيضا إلى لغات أخرى، تطلّ من خلالها على قرّاء آخرين، وتنفتح على بيئات جديدة تختلف عن بيئتها الأولى. ويمكن اعتبار عملية الاقتباس والتحويل هذه ترجمة جديدة للعمل المكتوب، ولكنها ترجمة لا تتمّ بالكلمات بل بالصورة (Image) التي تعدّ تعبيرا إيحائيا مكثفا، يتحدى صمت الكلمات، ويتجاوز قصورها، مما جعل ريجيس دوبري (Régis Debray) في كتابه "حياة الصورة وموتها" يقول بأن صورة واحدة تساوي ألف كلمة؛ فهي على الرغم من افتقادها الخصائص الدلالية للغة تعدّ طفولة العلامة، وأصالتها هذه تمنحها قدرة على الإيصال لا مثيل لها.(3) والمعروف أن ثمة علاقة كبيرة بين الصورة واستيعاب المعلومات؛ إذ لوحظ أن استيعاب الفرد للمعلومات يزداد بنسبة 35 % عند استخدام الصوت والصورة في آن معا، وأن الاحتفاظ بهذه المعلومات في الذاكرة وفقا لذلك يطول بنسبة 55%.(4) وعليه يمكن القول بأن تحويل الأعمال الأدبية إلى حركات صوتية وبصرية يكفل لها تجدّدا وبقاءً، كثيرا ما تُنسى معه أصولها الأولى، ولا يعلق في ذاكرة الكثيرين منا سوى العمل الموسيقي الجديد؛ كأوبرا "لاترافياتا" (La Traviata) التي كثيرا ما ننسى أن فردي اقتبسها من قصة ألكسندر دوماس الابن Alexandre Dumas Fils غادة الكاميليا (La Dame Aux Camélias) وباليه "جيزيل " (Giselle)الذي ننسى أن واضعه "أدولف آدم" (Adolphe Adam) أخذه من قصة لتيوفيل جوتييه (Téophile Gautier) بالعنوان نفسه، وأوبرا "حلاق إشبيلية" (IL Barbiere Di Siviglia) التي قد لا يعرف بعضنا أن روسيني (Rossini) استوحاها من روايةLe Barbier De Séville للكاتب الفرنسي بيار أوغسطن دو بومارشي (Pierre Augustin De Beaumarchais) وغيرها.
والعرض الراقص الذي يعنيني في هذه الدراسة هو عرض: "باليه زوربا" الذي حافظ في كثير من مشاهده على شق كبير من أحداث الرواية وشخوصها؛ فالراوي في الرواية شخص مثقف أتخمته قراءة الكتب، وفلسفة بوذا وهلاوس الفكر وشطحاته، فراح ينشد السكينة في إحدى قرى كريت التي صادف في طريقه إليها "زوربا"؛ الرجل البدائيّ، ذي الحواس الثائرة المتوحّدة مع الطبيعة، الذي لم يقرأ في حياته كتابا، ومع ذلك تعلّم منه الراوي ما لم يتعلمه في كلّ ما قرأه من كتب. إضافة إلى شخصيتين أنثويتين؛ إحداهما العجوز "هورتناس" (Hortenese) التي لم يعد لها بعد شبابها العابث سوى أمل وحيد؛ هو الزواج، وبزوربا. أما الثانية فهي الأرملة الشابة التي تثور على المجتمع الذي يودّ إخماد جذوة الحياة فيها، فيكون القتل مصيرها. مع وجود شخصيات أخرى جمعيّة، هي شخصيات رجال القرية ونسائها، الذين أتى حضورهم الجمعيّ هذا منسجما مع توحّد الراوي وانكفائه الشديد على ذاته. ويبدو واضحا ما على هذه الشخوص الروائية من تنوّع واختلاف جعل مهمّة نقل العمل إلى عرض سمعيّ وبصريّ مهمّة متاحة، وممكنة جدا، وإن لم تكن سهلة كما قد يبدو، مما يطرح سؤالا مهمّا يتعلق بالمقومات الفنية التي تحويها الرواية، والتي تجعل عملية تحويلها ممكنة كما سبق أن ذكرت.
ولعل أهمّ هذه المقومات وأكثرها قوة وتأثيرا هو عامل المضمون الإنسانيّ الذي تمتلئ به جميع صفحات العمل، وتجعل منه سيمفونية متنوعة عاجة بكثير من المشاعر والهواجس الدافقة، التي لا يكاد المرء يقرؤها حتى يشعر أنها تعنيه في الصميم، وتعبّر عن هواجسه وأحلامه، وآلامه وأفراحه، وانكساراته وأحزانه؛ فكازانتزاكي جعل من عمله هذا ميدانا شاسعا، تصطرع فيه كثير من المتناقضات، والكتل المتضادة: الفرح والحزن، والعلم والجهل، والحب والكره، واليأس والتفاؤل، والرحمة والعنف… وغيرها. وتموج في أثنائه كثير من المشاعر المصطخبة ذات البعد الإنساني العميق المتراوح بين حيرة الراوي وتشظيه بين أطنان الورق الكثيرة التي قضمها، وشعوره الفادح بلاجدوى كل تلك الكلمات الضبابية المرفّهة، البعيدة عن أحزان أهل الأرض، وثقة زوربا، واندفاعه الجامح نحو مباهج الحياة ومسرّاتها؛ يقتطفها بهيام وولع، يتعالى على جميع المنغصات والأحزان، ويكرّس فلسفة عمليّة تنشد الراهن وتلاحقه، منفلتة من أسر الماضي الميت، أو المستقبل الاحتماليّ الممكن. فضلا عن تعطش كلا المرأتين: هورتناس والأرملة إلى الحياة، والحب، والثقة، والأمل، اللتين تقف دون سعادتهما حواجز كثيرة؛ هورتناس تحاصرها سلطة الشيخوخة، ونضوب بهجة الشباب، والأرملة الشابة تحول دون هنائها سلطة المجتمع وعاداته الصارمة، الممثلة في شخوص سكان القرية، الذين يمثلون سلطة الحشد في أي زمان ومكان.
ولا يمكن إغفال الأفكار الفلسفية والرؤى الوجوديّة التي تثار من حين إلى آخر في ثنايا الكتاب، والتي تكوّن بنيته العميقة، وجوهره الغائر، الذي يمكن عدّه أكبر ملمح يرجع إليه نجاح العمل، ويتأكد بقاؤه، وامتلاكه لذاك الصيت الذائع، والشهرة الكاسحة التي غدا معها أثرا شعبيا، يلتف حوله المتلقون بجميع طبقاتهم، ومستوياتهم الفكرية، ويتابعون حركات زوربا وشطحاته، التي لم يعد بها مجرد كائن حبريّ، تتلاشى ملامحه حالما تنتهي عملية القراءة، بل غدا مخلوقا أسطوريّا يحيا ويتحرّك في أعماق وعينا الباطن، ويثير في أذهاننا أكثر من حيرة وسؤال، حول الله، والحريّة، والوطن، والموت، والحرب، والشرف، والسعادة.. وغيرها من القضايا الإشكالية التي تلازمنا جميعا كذوات إنسانية، وتستبدّ بالشق الأرحب من وجودنا.
ولنستمع مثلا إلى زوربا يتحدّث عن الوطن، وما يستجلبه حبّه والدفاع عنه من جرائم ودناءات كثيرة، ترتكب باسمه: "إنه لسرّ… سرٌّ كبير! إذن فلا بدّ من الجرائم والنذالات الكثيرة حتى تحلّ الحريّة في هذا العالم؟ ولو رحت أعدّد لك ما ارتكبناه من قذارات واغتيالات لقفّ شعر رأسك.. لكن ماذا كانت نتيجة ذلك كله؟ الحريّة!! إن الله بدلا من أن يرسل الصواعق علينا لحرقنا أعطانا الحرية! إنني لا أفهم شيئا!!"(5) أو فلنستمع إليه يتحدث عن حسه الانقلابيّ، وروحه الجامحة المنتهكة جميع الوصايا والمحرّمات، يقول: "إن كل ما هو جميل في هذا العالم قد اخترعه الشيطان: النساء الجميلات والربيع، والخنزير المحمّر، والخمر، كلّ هذا إنما الشيطان هو الذي أوجده ، أما الإله الطيب فقد أوجد الرهبان، والصوم، ونقيع البابونج، والنساء القبيحات… أف!!"(6) وما هذان النموذجان سوى مثال جزئيّ يحيل إلى ما تموج به الرواية من مضامين إنسانيّة تجعل من عملية تحويلها إلى عرض بصريّ سمعيّ أمرا ممكنا ومتاحا، لأنه سيستجلب انتباه أكبر قدر من المتلقين الذين قد لا يكون أغلبهم ممن تغريهم القراءة.
وإلى جانب هذا العامل – عامل امتلاء الرواية بالمعاني الإنسانية الصارخة، وتنوّع الشخوص الموحية بمثل تلك المعاني – يمكن تلمّس عوامل أخرى أو مقومات جديدة تجعلها قابلة للنقل والتحويل، ومن بينها أيضا: محدوديّة المكان والزمان، فما يجدر بنا ملاحظته على هذين المستويين هو أنهما لا يحظيان بحضور واسع في الرواية؛ فالزمن بشكل عام، يتميز بنوع من الاستواء النسبي، وأغلب الأحداث تدور في لحظته الراهنة، مع إشارات عابرة إلى ماض قريب، يعدّ جزءا من ذلك الزمن الراهن. هذا الزمن المحدود فضلا عن المكان المحدود أيضا، والذي لم يتجاوز فضاء القرية والشاطئ الكريتيّ الهادئ يمكن عدّهما عاملا مهمّا جدا من العوامل المساعدة على إمكان تحويل الرواية. وفضلا عن هذا يمكن ملاحظة كثير من الأوصاف البصريّة تنتشر في كثير من صفحات الرواية، ويبدو من خلالها المؤلف شديد الاحتفاء بالمحسوسات، شاحذا كلماته للتعبير عنها؛ فهو مثلا يصف زوربا بأنه "يقارب الستين، طويل القامة جدّا، نحيل، جاحظ العينين… له خدّان أجوفان، وفكّ قويّ، ووجنتان ناتئتان، وشعر رماديّ مجعّد، وعينان يقدح منهما الشرر.".
الصورتان رقم: 1 و2 وهما من مشهد "Zorba's entrance " وفيهما يطالعنا زوربا لأول مرة بحركاته المميزة؛ التي أبرزها بسط الذراعين، والقفز برشاقة لمسافات طويلة.
ويصف العجوز هورتناس بأنها "امرأة قصيرة القامة، بدينة، بهت لون شعرها، وأصبح لونه بلون الكتان، وهي تتهادى على ساقيها، ممدودة الذراعين، وكان ثمّة خال تتدلّى منه شعرات أشبه بوبر الخنزير، يزيّن ذقنها، وكانت تضع على رقبتها وشاحا مخمليّا أحمر، وخدّاها ذابلان، مطليّان بمسحوق بنفسجيّ، وثمة خصلة صغيرة لعوب تتأرجح على جبهتها، فتجعلها شبيهة بسارة برنار في دور العجوز في مسرحيّة "النسر الصغير".(8) ويقول في وصف الأرملة الشابة: "مرّت امرأة وهي تجري، وقد رفعت ثوبها الأسود حتى ركبتيها، وأسبلت شعرها على كتفيها، كانت ممتلئة، متمايلة، وثيابها ملتصقة بجلدها، تكشف عن جسد مثير وصلب."(9) أما مشهد مقتل هذه الأرملة فيعدّ من أكثر المشاهد حركيّة، وتعبيرات بصريّة، بلغت ذروتها في المشهد المعنون ب "موت الأرملة" أو "مصرع الأرملة" (The Widow's Murderer) وهو من أشدّ مشاهد الباليه براعة، وأداءً عاليا، عززته إيقاعات الجسد الهادر، وكذا دويّ الآلات النفخية الفاجع، الذي أتى محاكيا سلطة الجمع وقراره الحاسم القاضي بموت الأرملة؛ رمز الخطيئة والإغواء.
وإلى جانب هذه المقومات يمكن إضافة عامل آخر مهمّ جدّا نلحظه منبثا في كثير من ثنايا الرواية، وهو الذي يتراءى من خلال احتفاء زوربا وحتى الراوي نفسه بالموسيقى والرقص، الذي يأتي حركة تنفيسية، يتحرّر بها الجسد من الأثقال الكثيرة التي تكبّله، وتئد جموحه وعنفوانه؛ فزوربا حين تعييه الكلمات، وتعجز عن قول ما يختلج به وجدانه المتفجّر لا يجد سوى جسده النابض بحبّ الحياة، وروحه الغائصة في أعمق سراديب الوجود، فتحلقان معا – الجسد والروح – في أحضان النغم، وتقولان بحركاتهما الطفولية الرعناء ما لا تقوله الكلمات، وأفصح تراكيب اللغة الملفوظة أو المكتوبة، ولذا حين يصادف زميله الروسيّ الذي لا يفهم شيئا من لغته نجده يصادقه، ويحدثه طويلا، لا بلسانه كما يفعل أيّ شخصين عاديّين، بل بجسده كله، الذي غدا أبلغ من يحدّث ويقول، ولعلّ هذا ما قصده زوربا حين قال: "كلّ ما لم نستطع أن نقوله بفمنا قلناه بأرجلنا؛ بأيدينا؛ ببطننا؛ أو بصرخات وحشيّة: هاي هاي، هوب لا، هو هي!!"(10)
الصورة رقم 3 وهي تبرز الملامح الأولى للقاء جون وزوربا، وتبدو فيها العجوز هورتانس بثيابها الزاهية الألوان، المختلفة عن بقية ثياب نساء القرية.
وحتى في أشدّ المواقف إيلاما، واستجلابا للحزن والأسى – موقف موت ابنه – نجده لا يجد عزاءه إلا حين يرقص، ويبسط ذراعيه متحدّيا الألم والانكسار وكأنه برقصه ذاك يبصق خيبته ومرارته، ويتحرّر من سطوتهما إلى الأبد، يقول: "في داخلي شيطان يصرخ: "ارقص!" وأرقص. ويعيد هذا الهدوء إلى نفسي: ذات مرّة عندما مات صغيري "ديمتراكي" وقفت هكذا ورقصت، وأسرع الأقارب والأصدقاء الذين كانوا يتطلعون إليّ وأنا أرقص أمام الجثة ليوقفوني، وأخذوا يصرخون: "لقد جنّ زوربا! جنّ زوربا!" لكنني أنا في تلك اللحظة لو لم أرقص لجننت من الألم!" (11) فالرقص إذن ليس مجرد حركات بلهاء، تُبتَلع في خضمها العابر طاقات الأنا، ونوازعها، ولا هو احتفاء عابر، وتعبير سطحيّ عن فرح ساذج ينزلق على سطح الذات، بل هو نشاط طقوسيّ عميق، ذو إيحاءات فنيّة عالية، تتعالى فيه الذات على مبتذلات راهنها، وعلى قصور لغتها التلفظيّة المتداولة، التي مهما تكلمت فإنها لن تقول شيئا، لأنها محكومة بمنطق الاختيار الصارم، الذي تنتقى فيه بعض من احتمالات اللغة، فتظهر وتحيا، وتظل احتمالات أخرى كثيرة، كامنة، ومهملة، ومتشرنقة في عالم الإمكان.
هذا المنطق الاختياريّ الصارم الذي تفرضه لغة الكلام العاديّ، يستدعي معه كثيرا من العجز، والقصور، لذا كان لا بدّ من الاستعاضة عنهما بمنطق آخر أقلّ صرامة، وبلغة جديدة، لا تتخذ فيها الدوال أشكالا واضحة ومتحدّدة، بل تتميّز هذه الدوال بكثير من الانفتاح واللاتحدّد والقابليّة المطلقة لاكتساب معان جديدة نستشعرها بذوقنا، وإحساسنا، ولا تقوى ألسنتنا على قول القليل منها. هذه اللغة الجديدة؛ اللغة الانفتاحيّة اللامحدودة الإشارات هي لغة الجسد البشريّ في اندفاعه المحموم نحو المطلق، ونحو الأزليّ، الذي لا سبيل إلى محاولة تلمّس بعض من أطرافه إلا بالحركة؛ بالرقص الذي يعدّ من أشدّ الأنشطة الإنسانيّة طقوسيّة، وقدسيّة، تجلّت منذ أقدم الديانات والحضارات التي اتخذ أغلبها من الفن تعويذة واقية، ودرعا تتقى به قسوة الموت وحتميّة وقوعه؛ فهو – الموت – "مصلتٌ على الرقاب دوما، وما الحياة سوى مساحة من الوقت يعبرها الإنسان بكثير من الخوف والانتظار ممّا يضطرّ هذا الإنسان إلى اختراع وسائل عديدة من أجل نسيان ما ينتظره أو أن يجعل عمليّة الانتقال أقلّ ألما وأقلّ قسوة، ومثلما فعل الإنسان الأول وهو يرسم على جدران الكهوف تعبيراته فإن الإنسان الذي تلاه اخترع أو توصّل إلى التعاويذ لمقاومة الخوف، ثمّ خطا خطوة أخرى لكن بمكر هذه المرة؛ إذ غلّف خوفه بضجيج الغناء أو بإيقاع الرقص، ليوهم نفسه أن الحياة مديدة وربّما بلا انتهاء.".
ولن يكون هذا الرقص مؤثرا إلا إذا اتحد بالموسيقى؛ بتلك التشكيلات النغميّة التي تشكّل العَصَب العميق من جوهر الوجود، والتي تتميّز عن بقيّة الفنون باستقلالها وبأنها بنية مكتملة، مكتفية بذاتها، فهي "تتميّز عن سائر الفنون بأنها لا تصوّر أو تقلّد شيئا، فبينما نجد الرسم فنّا تصويريّا، والنحت له صلة بتصوير الواقع الخارجيّ عن طريق أبعاده الثلاثة، والأدب يمثل الواقع عن طريق الرموز اللغوية، فإن الموسيقى لا تقلد، ولا تمثل شيئا، وهي في هذا نمط فنيّ مستقلّ بذاته."(13) كما أنها تتميّز بعدم قابليّتها للترجمة، وبتفرّد عملية تذوّقها وتلقيها؛ "فبينما نجد الشعر مثلا قابلا – في معانيه على الأقل – لأن يفهَم إذا ترجم إلى لغة أخرى؛ هي لغة النثر، وبينما نجد الفنون المقلدة تفهم بالرجوع إلى الأصول التي تقلدها نجد الموسيقى لا تقبل أن تترجم إلى أية لغة أخرى؛ فتجربة الموسيقى تجربة لا نظير لها، وتذوّقها يتمّ عن طريق عمليّة فريدة، لا تفهم إلا من خلال سياقها الداخليّ وحده، والانفعال الذي تثيره الموسيقى يستحيل أن يعبّر عنه بلغة أخرى أو بوسيلة أخرى من وسائل التعبير، ولا يمكن تصوّره إلا بسماع هذه الموسيقى ذاتها، ومن هنا قيل إن الموسيقى لغة مستقلّة، مكتفية بذاتها."(14) وربما لهذا كله يطالعنا زوربا في كثير من مقاطع الرواية محتضنا آلته العجيبة؛ السانتوري (Santore) محتفيا بها؛ يخرجها بحنان من اللفائف الكثيرة التي غلّفها بها: «كان يبدو وكأنه يقشر تينة، أو يعرّي امرأة من ثيابها.»(15) وهذا الاحتفاء الجامح بالرقص والموسيقى الذي يسري في عروق زوربا، والذي انتقلت عدواه إلى الراوي يعدّ من أكثر الملامح أو المقومات المساعدة على مرونة العمل وقابليّته لأن يتحوّل إلى عرض بصريّ راقص.
لكننا لدى تأمل كلا العملين؛ الرواية وعرض الباليه سنلحظ كثيرا من نقاط الاختلاف التي يمكن تعليلها بحتميّة ما يفرضه العمل الإبداعيّ من حريّة وانفلات من جميع الأطر والقيود؛ فتحويل عمل مكتوب إلى عرض راقص يمكن وصفه بأنه ترجمة بصريّة صوتيّة لذاك العمل المكتوب غير أنها ستكون كأية ترجمة إبداعيّة أخرى متحرّرة من قيود الوفاء الأعمى للأصل، ولذا لن نتوقع من مبدعي هذا العرض الجديد – موزع الموسيقى، ومصمّم الرقصات، وأعضاء الفرقة الأوركسترالية، ومنشدي الكورال، والمايسترو، والراقصين أنفسهم – أن ينقلوا لنا جميع ما جاء في الكتاب حرفيّا؛ فحتما ثمّة شخوص ستحذف، وأحداث ستختزل وأخرى ستحوّر، أو سيعاد ترتيبها. ويمكن إجمال أهمّ نقاط الاختلاف بين العملين فيما يلي:
* الراوي في الرواية رجل يونانيّ مثقف، أعيته الكتب وشطحات الفكر، أمّا في العرض فهو سائح أمريكيّ مثقف أيضا، يدعى جون (John) يقصد "كريت" سعيا نحو الانسجام مع ذاك المجتمع الجديد المختلف عنه، ويقع في حبّ الأرملة "مارينا" – وهنا نلحظ أن عرض الباليه جعل لهذه الشابة وللراوي أيضا اسما، أمّا في الرواية فلا اسم لهما – ويسعى إلى الزواج منها ممّا يستجلب سخط أهل القرية. والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا الآن هو عن سبب جعل الراوي سائحا أمريكيّا: لماذا هو أمريكيّ بالذات؟ ولعلنا نستطيع تعليل ذلك بأن مبدع عرض الباليه أراد أن يضفي بعدا آخر جديدا من التنوّع والاختلاف بين الشخصيّات، فاختار ألا يكون الراوي يونانيّا بل أمريكيّا؛ من بلاد تبعد كثيرا عن اليونان، وتختلف عادات شعبها كثيرا عن عادات شعب اليونان، ممّا يحقق ذاك التنوّع الذي يمكن أن نفهم به سرّ اختلاف سلوكه – الراوي – عن سلوك بقيّة أفراد المجموعة. وربما كان أمريكيا لما عرف عن حضارة بلاده من ماديّة وسطحيّة هي على النقيض تماما من روحانيّة الشرق وعراقة تاريخه. وهذا لا يعني أن "كازانتزاكي" لم يوفق في جعل البطل يونانيّا كبقيّة الشخصيّات، ولكنه باعتماده اللغة المكتوبة يمتلك فسحة أوسع للشرح والإفضاء، وتوضيح أسباب اختلاف راويه ذاك عن بقيّة المحيطين به، بعكس عرض الباليه، الذي يعتمد على اللمحة المختصرة، واللغة المكثفة المركّزة.
* أحداث كثيرة حذفت من عرض الباليه، وشخصيّات أخرى غابت ك " ستافرايدكي" صديق الراوي، و"ميميتو" أبله القرية، وطبعا يمكن تعليل ذلك بضيق زمن العرض؛ فمصمّموه مجبرون على الانتقاء الصارم والجزئي؛ انتقاء الشخصيات المحوريّة، والأحداث الأكثر بروزا، لأن عرضهم هذا لن يجاوز الساعتين، ولن يستطيعوا قول كلّ شيء خلال هذه الفسحة الزمنيّة القصيرة.
* زوربا – كما مرّ سابقا – شديد الوله بآلة "السانتوري" لا تكاد تفارقه أبدا في كثير من مشاهد الرواية، ولكن هذه الآلة الموسيقية ذات الحضور الحميميّ تختفي صورتها في عرض الباليه، فلا يطالعنا زوربا حاملا لها، ولا عازفا عليها، ممّا يثير في أذهاننا أسئلة كثيرة عن سرّ هذا التغييب الذي لا شكّ أنه كان متعمّدا. ولن تطول حيرتنا كثيرا إن علمنا أن هذه الآلة "اليونانيّة الخالصة" لم تفارقنا في كثير من مشاهد العرض، ولكن حضورها لم يكن بصريّا بل سمعيّا – وهو الحضور الأعمق في نظري – فهي تطالعنا في كثير من المشاهد، ولا سيما في المشهد الأخير؛ مشهد "Syrtaki" أو مشهد رقصة زوربا (The Dance Of Zorba) الذي يتراءى فيه هذا الأخير وقد شرع في رقصته الأسطوريّة الشهيرة؛ بخطوات بطيئة حييّة … لا تلبث أن تتسارع … وتنغمر في حمّى اللحن، ولهيب السانتوري، التي تعدي أنغامها بقيّة الحضور، فيشرع الكلّ في رقصة جماعيّة تحاكي دفء المشاعر الإنسانية، وتغلب نزعة الخير فيها على نزعة الشرّ.
* الرواية تسير سيرا أفقيّا طبيعيّا فتنتهي بإمعان زوربا في العجز والشيخوخة وموته في الختام أمّا في العرض فتقف الأحداث عند لحظة واحدة، تتنامى بعدها عموديّا؛ هي اللحظة التي يعي فيها الراوي بتأثير من زوربا عبثيّة جميع ما قرأه من كتب، ولاجدواها؛ اللحظة التي يدرك فيها أن لجسده لغته، وأشواقه، وحنينه، وأن هذه الأشواق الطافحة هي ما يكوّن جوهر وجوده، ويمنحه صفة الإنسان الحيّ، القلق، المتوهّج، الباحث أبدا عن أسرار الطبيعة، وعمّا وراء هذه الأسرار. وينتهي العرض برقصة زوربا والراوي وجميع سكّان القرية رقصة عنفوانيّة جذلى، تحاكي بهجة الحياة، وإصرارها على هزيمة الموت، وتحدّي عتمته، وكأن هذا العرض الراقص يأبى إلا أن يكرّس شيئا وحيدا هو الفرح، والكفاح، وقضم مباهج الوجود بلهفة من لا يعي من أزمنته سوى زمنه الحاضر، ولحظته الراهنة التي هي اللحظة الوجوديّة الحيويّة الوحيدة. وقد أتت هذه الفروق لتؤسس جماليّة العرض، وحيويّة جميع مشاهده التي يمكن استجلاء ملامحها في عنصرين:
1 – التشكيل البصريّ (Composition Visuelle) ويمكن تقسيمه إلى العناصر الآتية:
أ – التشكيل الحركيّ (Composition Dynamique): وهو جزء مهمّ جدا من عناصر تشكيل الصورة، بل هو أكثر عناصرها استجلابا للانتباه، ونعني به حركات الجسد الراقص، وإيقاعاته، وإيحاءاته الناقلة لمختلف الحالات والتقلبات النفسيّة، التي لا تجد في الكلمات متنفسا لها، بل تجده في الجسد وحده؛ الصامت؛ المتكلم – على صمته الراسخ – بألف ألف قصة وحكاية، تحكيها لنا الأذرع والسيقان، وكلّ ما هو حيّ، ومتحرّك، ونابض بالدفء في ذاك الجسد البشريّ الذي يحيله الرقص لسانا ناطقا، تقول انتفاضاته ما لا تقوله أبلغ الكلمات.
ب – التشكيل اللوني (Composition Des Couleurs): وأعني به الألوان الغالبة على ملابس الراقصين، التي من المؤكد أن اختيارها لم يكن عشوائيّا، بل تمّ بفنيّة عالية، ولأسباب كثيرة، يمكن إيجاد تأويلات كثيرة لها.
ج – الإضاءة (Eclairage): وهي عنصر لا يقلّ أهميّة عن سابقه، حيث يتراوح العرض بين الإضاءة الصارخة المحاكية ضوضاء النهار، وإيقاعه الصاخب، الفاضح لجميع الخفايا، والإضاءة الخافتة المحيلة إلى سراديب الأنا، ودهاليز عالمها الداخليّ، والظلام الدّامس الذي كثيرا ما تتخلله بقعة نور صغيرة، يأتي تضادهما الصارخ محمّلا بكثير من التأويلات، والقراءات المختلفة.
د – الديكور والملابس (Décords Et Costumes): وتضمّ هذه النقطة عنصرين، أحدهما ثابت هو الديكور، الذي يوحي للمتلقي بطبيعة المكان الذي تدور فيه الأحداث؛ فهو عنصر ثبوتيّ، يمكن عدّه الإطار الذي يحتضن بقيّة الأحداث، والحركات، والأصوات ذات البعد الزمنيّ المتغيّر.
الصورة رقم 4 وهي من مشهد " John's entrance " وفيه تبدو رقصة رجال القرية الجماعية، التي تعبّر عن رفضهم لجون الدخيل عنهم.
وما يلحظ على خلفيّة هذا العرض وديكوراتها هو أنها تضمّ مشهد بناء قديم باهت اللون، ضخم جدّا، تقع خلفه مبان أخرى صغيرة باللون الباهت نفسه، ممّا يوحي بأنّه مشهد القرية الكريتيّة، التي حلّ بها السائح الأمريكيّ: "جون". وتلازمنا هذه الخلفيّة طيلة مشاهد العرض؛ فهي خلفيّة ثابتة بعكس بعض العروض الأخرى التي قد يكون فيها الديكور متحرّكا وكأنه أحد الشخصيات المحرّكة للأحداث، كما هو الحال مثلا في عرض "Notre Dame De Paris".وثبوت هذه الخلفيّة يوحي بأن ما سيعوّل عليه مصمّمو هذا العرض هو حركات الراقصين، وإيحاءات أجسادهم الراقصة، ممّا يحيلنا إلى النقطة الثانية؛ وهي نقطة الملابس، التي تعدّ عنصرا بصريّا ثانيا، يلتحم بأجساد الشخوص الراقصة، ويلعب دورا كبيرا في ضبط حركاتهم ولذا نجد أن لكل رقصة أزياءها الخاصة بها فإن كان رقص الفالس (Valse) مثلا يعتمد على ظهور الرجل ببدلة سوداء رسميّة، وظهور المرأة بثوب طويل يشبه ثياب القرون الماضية، ورقص الفلامنكو (Flamenco) يعتمد على بروز الزي التقليديّ الإسبانيّ الذي غالبا ما يكون أحمر أو أسود، وعلى براعة الراقصة في فتح المروحة وغلقها، وتحريكها بأناقة، ورقص التانغو الأرجنتيني (IL Tango Argentino) والرومبا (Rumba) والسالسا (Salsa) يعتمد على أن تظهر المرأة بثياب مثيرة قصيرة، وبحذاء ذي كعب عال، ورقصة التارانتلا (La Tarantella Napoletana) تشترط أن يكون ثوب المرأة أسود(16)، فإن لرقص الباليه أزياءه الخاصة جدّا، والتي يعرفها جميع المهتمين بهذا الفن. وما يلحظ على هذا العرض أن أزياء الرجال فيه وحتى النساء حديثة، لا تكاد تختلف في شيء عن الأزياء التي نرتديها في حياتنا اليوميّة، ولعلّ هذا راجع إلى أن النصّ الذي استلهم منه العرض؛ أعني نص رواية زوربا يعدّ نصّا حديثا، إذ كتب سنة 194، وهو بهذا مختلف عن العروض الأخرى، التي كانت نصوص أغلبها راجعة إلى أزمنة بعيدة نسبيّا.
2 – جماليّة التشكيل الصوتيّ (Composition De La Voix)
وهو تشكيل يمكن وصفه بالزمنيّ، ميزته التتابع والتغاير، ويتراءى من خلال الموسيقى المصاحبة لرقص شخوص الباليه، وما يلحظ على هذه الموسيقى هو تنوّعها الشديد، وتراوحها بين النوع التراثيّ التقليديّ، المحيل إلى الإيقاعات اليونانيّة الخالصة، والنوع الكلاسيكيّ الرصين، وحتى الحداثيّ الممعن في التجديد والاقتحام، فضلا عن عدم اقتصار هذه الموسيقى على أصوات الآلات وحدها، بل تخللتها أصوات بشريّة أخرى، هي أصوات فرقة الكورال (Coral) بنوعيها: الرجوليّ الخشن، والأنثويّ الناعم، الذي كان الصوت المفرد (Solo) للمغنية نينا فينيتسانو (Nena Venetsano) مشكّلا لأبرع مقاطعه، وطبقاته. ولأن من الصعب جدّا فصل هذه العناصر الجماليّة: البصريّة والسمعيّة عن بعضها، أو محاولة تجزيئها وتفكيكها فسأتتبّع أهمّها وأكثرها نتوءا من خلال أغلب مشاهد العرض مع ربطها بمرجعها الأوّل: النص المكتوب، وهذا لاستجلاء أهمّ الفروق والتحوّلات الطارئة على العملين.
ويبدأ المشهد الأول "Zeibekikos Songs" بما يشبه العرض المبسّط للشخصيّات الجمعيّة في العرض، وهي شخصيّات رجال القرية ونسائها، الذين يظهرون بملابس موحّدة؛ هي البنطال الأسود، والقميص الأبيض للرجال، والثوب الشاحب للنساء، الذي لا يكاد يختلف عن لون البناء الخلفيّ. وال "Zeibekikos" هو ضرب من الموسيقى والرقص الشعبيّ اليونانيّ، يغلب عليه إيقاع آلة السانتوري اليونانيّة الخالصة، ممّا يوحي بانسجام كبير بين مستويي الشكل والمضمون؛ فالفكرة المراد التعبير عنها هنا هي فكرة الحضور الجمعيّ، والحياة اليوميّة العامّة، التي برع ثيودراكيس في التعبير عنها بذاك الإيقاع الشعبيّ المتوارث، وبرع أيضا مصمّم الرقصات في عرضها من خلال حركات الراقصين والراقصات التي تميّزت كلّها بالاستواء، وبدت خير مترجم لما يدور في أعماق النفس البشريّة من مشاعر وانفعالات تتراوح بين الخير والشرّ، والقسوة واللين، والتمرّد والمسالمة .. وغيرها.

ويأتي المشهد الموالي "John's Entrance" لتمثل من خلاله شخصيّة مهمّة جدّا ومحوريّة؛ هي شخصيّة السائح الأمريكيّ جون أو الراوي في الرواية؛ وهو الشخص المثقف ذو الثروة التي أغنته عن مكابدة مشاق الحياة، ممّا جعله يتراءى بمظهر شديد الخصوصيّة، مختلف عن بقيّة المحيطين به. وما يلفت الانتباه لدى حضور هذا الشخص هو البياض الذي لازمه؛ فهو يرتدي ثيابا كلّها بياض؛ حذاء أبيض، وبنطال أبيض، وقميص أبيض أيضا، ممّا يثير في النفس أسئلة كثيرة عن سرّ هذا البياض الناصع، والذي يمكن إيجاد تأويلات كثيرة له؛ قد يكون أهمّها أن مصمّم العرض أراد أن يوحي لنا بأن جون هذا شخص يعيش على حافة الحياة وعلى هامشها؛ فهو شخص لم يعرف في حياته أيّة تجربة إنسانيّة، ولم يرتكب أيّة معصية، أو يخرق أيّة وصيّة؛ ممّا يجعله يبدو شبيها بالصفحة البيضاء… صحيح أنها ناصعة… لكنها فارغة(17) تحتاج إلى من يفعم خواءها، ويملأ أسطرها البيضاء بأيّ شيء. أما ثيودراكيس فيبدي لنا تخبّط هذه الشخصيّة، وضياعها بين شطحات الفكر، ومتاهاته من خلال الإيقاع الصاخب والفوضويّ، الذي يصفع آذاننا حال ظهورها، والذي يتناوب فيه إيقاع الطبل (Daico) وهو من الآلات الإيقاعيّة (Percussion Instruments) الهادرة مع إيقاع البوق (Trompette)الذي يعدّ من أشدّ آلات النفخ (Wind Instruments) صخبا وضجيجا.
هذان الملمحان – البصريّ والصوتيّ – الملازمان لجون يوحيان باختلافه عمّن يحيط به من سكّان القرية المنهمكين في رقصهم وغنائهم، وحياتهم النهاريّة الحافلة. فإذا أضفنا إليهما الجانب الحركيّ لهذه الشخصية، الذي تميّز بكثير من التلعثم والارتباك عكسا مدى اغترابه وشعوره باللانتماء، الذي يبدو أنه أثار عداوة رجال القرية، فانتظموا جميعا صفا واحدا في مواجهته ومنعه من التوغل بينهم (ينظر الصورة رقم 4)، وبلغت مظاهر عداوتهم أوجها حين أحاط به ثلاثة من الرجال، وحاصروه بأذرعهم القويّة، التي لم يتملص منها إلا بصعوبة. وإن بحثنا في الرواية عما يناسب هذا المشهد من كلمات، لوجدناه في وصف صديقه له – الراوي – ب "الفأر قارض الورق"(18) وكذا في وصف زوربا له أيضا بقوله: "عقل بريء .. وجسم لم يعرف الشمس."(19)
وفي قمّة التنافر والاحتدام بين جون المسالم، ورجال القرية العدائيّين يطلّ علينا زوربا الذي يبدو أنه قدم من أحد أسفاره البعيدة، ليبدأ المشهد الموالي؛ مشهد " Zorba's Entranc " الذي تبدو فيه الشخصيّة المحوريّة "زوربا" وقد شرعت بحركات تلقائية بسيطة تحدّثنا عن أسفارها، وأحلامها، وحياتها الحافلة المليئة بالمباهج والمسرّات، وكذا بالغصص والمنغصات .. يرقص زوربا صامتا لتتكلم بدلا عن لسانه يداه، وساقاه، وجسده كلّه، الذي لا يختلف في مظهره الخارجيّ عن مظهر بقيّة رجال القرية، غير أنه يحيط رقبته بوشاح صغير، ويضع على رأسه بيريه أسود، يوحي بتقدّمه في السن، وبتمرّسه بالحياة وبالبشر معا (ينظر الصورة رقم 1 والصورة رقم 2 ) وعلى الرغم من التناقض الشديد بينه وبين جون إلا أن كثيرا من مظاهر المودّة توحّد بين الرجلين، وتوحي بصداقة عميقة ستجمع بينهما. في المشهد الخامس: "The Girl's Dance" تبدو شخصيّة الأرملة "Marina" التي سيعشقها جون لاحقا بجمالها الآسر وسوادها الحداديّ، وقد شرعت بحركاتها الرشيقة، تحكي لنا حكاية قلبها الغض المولع بالحياة، والحب، والفرح، والانطلاق.
وهنا نلحظ الظلام الدامس الذي أحاط بخشبة المسرح، الذي لم تنره سوى بقعة ضوء ضئيلة، تتحرّك كلما تحركت الأرملة، مما يوحي بغلبة المزاج الليليّ، وسيطرته على تطوّرات هذا المشهد. وقد قيل عن مزاج الليل بأنه هو "الذي تسوده العاطفة والجانب العاطفيّ في الروح، وهو الأقدر على إدراك أسرار الوجود ومعميات الحياة، لأنه أقرب إلى الينبوع الذي منه يستمدّ الوجود قواه." (20) ويزداد هذا الصوت حميميّة حين يصدح صوت المغنية المفرد محاكيا أشواق مارينا، وتطلعات روحها المعذبة، الرانية إلى حبّ حقيقيّ، لا يلبث أن يتبخر حين تسطع الإضاءة فجأة معلنة زمنا نهاريا مختلفا، يمكن وصفه بأنه الزمن "الذي يسيطر فيه العقل النظريّ بأحكامه وقوانينه، ويتعلق بالجانب الآليّ الواضح من الوجود.".
وهنا يظهر القرويّون من جديد، يتقدّمهم يورغوس (Yorgos) الذي يحاول اجتذاب مارينا، فتصدّه بعنف وإصرار، تزداد ملامحه حدّة مع إيقاع الموسيقى التي يعلو فيها صوت البوق الخشن الموحي بالوحشة الشديدة، والتوجّس المسيطر على الموقف. أما العجوز هورتانس فنراها في المشهد السادس Madame Hortens الذي تسوده حميميّة الليل، ورقة أنغام الناي (Nay) وحزن أنغام التشيللو (Cello) وتبدو هذه العجوز وحيدة، حالمة، تجترّ خيبات شبابها، وزمهرير شيخوختها، حريصة في الوقت نفسه على التبرّج، وعلى التشبّث بما بقي من آثار ذاك الشباب الغابر. وهنا نلحظ – كما أشرت سابقا – غلبة الزمن الليليّ، واستبداده بجميع أركان المسرح؛ وهو زمن من أبرز ملامحه أنه مستغرق في الألم والمعاناة، يختلف كثيرا عن الزمن النهاريّ المزدحم بالحركة والحياة؛ الزمن الذي يمثل حركة الماحول بقابليّتها على نفي الوحدة والوحشة بما تمتلكه من قدرة على توكيد الحضور، وعلى تمثل الجانب المشرق في الحياة.(22) كما نلحظ اتجاه بقعة الضوء نحو وجهها، وتركّزها الملحّ في ذاك الجزء الجسديّ، الذي يعدّ« صورة الكائن، وموطن هويّته الفرديّة، وتميّزه الفيزيقيّ، ويمتلك حظوة تمثيل الجسد والتواصل بين الناس.»(23) كما أنه يتميّز بطابع تعبيريّ تنطبع عليه جميع الرغبات، وتظهر في حركاته وسكناته، بحيث يشكل إلى جانب الخطاب اللغويّ خطابا من نوع سيميائيّ مواز له.
وما نلحظه على وجه العجوز هنا: ألم دفين يتراءى من خلال انقباض فكّيها، وذبول عينيها، فضلا عن وحدة كاسحة، وشوق إلى الحبّ والحنان عبّرت عنه بذراعيها الممتدّتين نحو المجهول، اللتين سرعان ما ترتدّان خائبتين، وتنقبضان بشدّة على كتفيها بهيئة من يحتضن نفسه، أو يتقي بردا شديدا يجتاحه. وقد بدا مظهرها الخارجيّ محاكيا بدقة ما جاء في الرواية من أوصاف بصريّة لها؛ فهي تبدو لأعيننا مرتدية ثوبا هو في الواقع " Robe De Chambre" زهريّ اللون من الساتان اللامع، يحيط بعنقها وشاح أزرق طويل، وتعقد شعرها الأشيب في خصلة واحدة. وتبدو في الرواية بأوصاف مشابهة؛ فهي "قد عقدت شعرها خصلا، وارتدت روب دي شومبر طويلا له وردة قديمة، وكمّان عريضان، وتخاريم منسلة، وكان يحيط بعنقها المجعّدة شريط عرضه أصبعان، لونه أصفر كناريّ، وقد ضمّخت إبطيها بماء زهر البرتقال.".
وهذه الوحدة الزمهريريّة التي تعيشها العجوز سرعان ما تتبدّد حين يطالعنا على خشبة المسرح زوربا وجون اللذان يحرّكان بالتعاون مع العجوز مشاهد المشهد السابع Zorba John , Hortense ومن خلاله تبدو بوضوح نظرة زوربا إلى المرأة، وإلى الحياة، وإلى الزمن؛ فهو يعشق المرأة كيفما كانت؛ عجوزا أم صبيّة، ويعشق الحياة أيضا، ولا يعي من الزمن سوى اللحظة الراهنة، التي لا بدّ أن تكون حافلة وممتلئة دوما، وهذا ما نلمسه في قول زوربا – الكائن الحبريّ -:«لقد كففت عن التفكير بما جرى بالأمس؛ كففت عن التساؤل عمّا سيجري غدا: ما يجري اليوم في هذه اللحظة هذا ما أهتمّ به، إنني: – ماذا تفعل في هذه اللحظة يا زوربا؟ – إنني أنام. إذن نم جيّدا – ماذا تفعل في هذه اللحظة يا زوربا؟ – إنني أشتغل. إذن اشتغل جيّدا! – ماذا تفعل في هذه اللحظة يا زوربا؟ – إنني أعانق امرأة.. إذن عانقها جيّدا يا زوربا، وانس كلّ الباقي، فليس في العالم شيء آخر؛ ليس فيه إلا هي وأنت!!»(25) أما زوربا؛ المخلوق الراقص، الماثل أمام أعيننا، فيعبّر عن فلسفته هذه بمغازلته للعجوز؛ باحتضانها، وحملها، والانحناء احتراما لأنوثتها الغابرة التي لا يتوقف التشيللو والناي الحزينان عن نعيها بإيقاع حالم، حزين، هو نفسه الإيقاع الذي سمعناه لدى أول ظهور لها على المسرح. ولا يلبث زوربا أن ينفلت من ذراعي العجوز الولهى، ويومئ إلى جون مودّعا، فنفهم أنه سيسافر مخلفا حبيبته الجديدة "هورتانس" تلوك وحدها مرارة جزعها، وحرمانها.
وهنا يبدأ المشهد الموالي Tsiftetli التي تعني ضربا من الموسيقى اليونانيّة تؤدّى برقص يشبه كثيرا الرقص الشرقيّ (Oriental Dance)، وقد بدا هذا الطابع الشرقيّ من خلال الإيقاع الموسيقيّ، وكذا من خلال أزياء الراقصات الثماني، اللواتي أحاط بهنّ زوربا منتشيا بجمالهنّ، عابقا بسحر وصلهنّ، وحضورهنّ اللطيف. ويأتي المشهد الأخير في هذا الفصل وهو " The Dance Of Love " ليعيدنا إلى علاقة الحب الجديدة بين الأرملة مارينا والسائح جون، ويبدأ هذا المشهد العاطفيّ الحالم بنغم حالم أيضا، نتلمّسه من خلال إيقاع ال " هارب " (Harp) المعروفة قديما باسم "قيثارة الملائكة" والتي تبدو من خلال أنغامها العذبة الشفافة أشواق مارينا، وتطلعات روحها الغضة الرانية إلى الحبّ، من خلال حركة مدّها لذراعيها الموحية بأنها تنتظر الحبيب الذي سينتشلها من صحرائها وقحطها، وجفافها. وإلى جانب صوت "الهارب" يطالعنا أيضا صوت الناي الرقيق، يسايره صوتان وتريّان آخران؛ هما صوت التشيللو والكمان (Violin) الحزينين. والمعروف عن الآلات الوتريّة (String Instruments) أن النغم فيها متصل، لا ينقطع، ممّا يوحي بحال من الديمومة والاتصال، بعكس الآلات المفاتيح (Keyboard Instruments) كالبيانو (Piano) مثلا، التي يعتمد فيها النغم على نقر الأصابع لمفاتيح الآلة، ممّا يجعل من الإيقاع في مثل هذه الحال منفصلا، تحكمه متواليات صوتيّة مفكّكة، لا يجمعها سوى التتابع النغميّ. وعلى إيقاع هذا النغم الحالم الذي غلب عليه الناي تتبرعم أشواق مارينا، ويوافيها حبيبها جون فينطلق الجسدان العاشقان في لعبهما الطفوليّ المحاكي بهجة الحب، وإشراقه، والتماعاته التي يزيدها توهّجا صوت المغنية، الذي يعود من جديد.
وهنا ينتهي الفصل الأول ليبدأ الفصل الثاني بمشهد "The Return Of Zorba" الذي يميّزه الغناء الكوراليّ الجمعيّ، والإضاءة القويّة الموحية بأن الزمن نهاريّ، تؤسّسه حركة رجال القرية، ونسائها، الذين يلتفون حول زوربا العائد ب "خيرات كثيرة" نبصرها من خلال حقيبته السوداء المكتنزة، التي لا يتوانى عن توزيع ما فيها عليهم، فيتلقفون عطاياه بجنون، وتنافس. وعلى إيقاع الموسيقى الصاخب تتراءى من جديد فلسفة زوربا في الحياة، وإقباله الشديد عليها؛ فهو يوزع على الآخرين جميع ما يملك، غير مستبق لنفسه شيئا، ويحتضن في الوقت نفسه ما أمكنه من النساء، غير مبال بعجزه المقبل، وشيخوخته القادمة، وكأن هذا المشهد الصاخب يعبّر عمّا جاء في إحدى صفحات الرواية من قوله معبّرا عن جموحه، وعدم اكتفائه بشيء: "إمّا أن تصغر الأرض وإمّا أن أكبر أنا!"(27) أو قوله معاتبا الراوي على زهده الفاضح في الحياة: "لو كان لي شبابك لكنت ألقيت بنفسي في كلّ مكان، وعلى رأسي أوّلا: في العمل، والخمر، والحب، غير خائف الله أو الشيطان: هذا هو الشباب!"(28) ويبدو أن حالة التوحّد بالجمع هذه ليست سوى حال موهومة، لأنه حالما يلقي بآخر ما معه حتى ينفضّ الجمع من حوله، ويعود إلى وحدته من جديد… وتصمت الموسيقى.. ويسود الظلام.
وهنا يبدأ المشهد الموالي: "Veatriki / Marriage Of Hortense" وفيه تظهر هورتانس من جديد، وتعود موسيقى التشيللو والناي، ويتقدّم زوربا بإيعاز من جون، فيعطيها منديلا صغيرا؛ هو هديّته إليها – ولا يخفى ما في المنديل من معان غراميّة، وعاطفيّة جليّة – وبإيعاز من جون أيضا يطلبها للزواج بانحنائه على ركبتيه خاشعا أمامها، ولا تلبث أن تقبل عرضه بانحنائها أيضا، وبمدّها كلتا يديها نحوه. وهنا تبدو مظاهر الاحتفال بذاك الزواج بدخول صفين من نساء القرية يحملن شريطين طويلين من الدانتيل الأبيض؛ هو الترميز السيميائيّ لحالة الاحتفاء الغامر التي يستشعرها الجميع في تلك اللحظة الحافلة.
ولكنّ فرحة هورتانس الغامرة بتحقق أملها الوحيد في الحياة تقف منها على النقيض خيبة مارينا ووحدتها التي كرّسها موقف سكّان القرية العدائيّ من جون، فتنطلق فيما يشبه نعي الذات؛ نعي الأمل، والأحلام، الذي نلمسه بوضوح من خلال المشهد الخامس "Marina" الذي يسوده الإيقاع الموسيقيّ الحالم نفسه الذي لمسناه في مشهد "The Dance Of Love" والإضاءة الخافتة نفسها. ولا تكاد مارينا تبوح بحركاتها الرشيقة ببعض ممّا يثقل صدرها حتى يتغيّر اللحن الحالم الذي أسرتنا رقته ليصفع آذاننا لحن آخر هادر، يتصدّره هدير الأبواق، وصخب الطبول، ونشيد الجوقة الصاخب الذي يشبه صوت القدر الصارم، القاضي بشيء وحيد؛ هو موت الأرملة؛ رمز الخطيئة والشرّ؛ المرأة التي تصدّ ابن قريتها، وتقبل على رجل آخر غريب، ومنبوذ؛ وهنا يبدأ المشهد السادس؛ مشهد مصرع الأرملة: "The Widow's Murderer" وفيه يتحلق رجال القرية ونساؤها؛ يحاصرون مارينا، ويسدّون طرق النجاة أمامها، وعلى إيقاع الصخب والعنف يعلو ضجيجهم، وتحفزهم، الذي لا يلبث أن تتخلله أصوات " الكلارينيت " (Clarinette) الرقيقة، التي ترتفع بيأس، وكأنها روح الأرملة المعذبة تتمسّك بأهداب الحياة، وتناشد المعتدين شيئا من الرحمة، لن تحصل عليها لأنها سرعان ما ستموت. وعبثا يحاول جون اقتحام صف القرويّين وتخليص حبيبته، ممّا يعيد إلى أذهاننا المشهد نفسه الذي وصف فيه كازانتزاكي مصرع هذه الشخصية الروائيّة.(29) وبعد أن ترحل مارينا ويحزن عليها جون كما يجب، نجده يعود إلى نصائح أستاذه الأثير "زوربا"، ويبدأ مشهد "Asteraki" الذي يعني عنوانه رقصة يونانيّة شعبيّة هي بمثابة الحركة الأولى من رقصة تراثية أخرى؛ هي رقصة ال" Syrtaki " التي ستكون المشهد الأخير من هذا العرض.
وفي هذا المشهد لا يمثل أمامنا في بدايته سوى زوربا وتلميذه المحطم القلب جون، الذي توحي حركاته بحوار طويل بينه وبين زوربا حول: الحياة والموت، والفقد والألم، والخيبات الكثيرة التي لا سبيل إلى اتقاء شرّها إلا بالسخرية واللامبالاة؛ بالتهكم "الذي يتضمّن الوعي بعالم الضرورة، وبما فيه من صدوع ولامعقوليّة"(30) وبالرقص الذي يعدّ التعبير الحركيّ عن تلك السخرية، والتجلي البصريّ لها، والذي نجد زوربا والراوي نفسه شديدي الاحتفاء به في كثير من صفحات الرواية – وقد عرضت لبعض من آرائهما في جزء سابق من البحث – ومن ذلك قول الراوي وقد بات يستشعر حقا فقره الوجدانيّ الفاضح، وعجزه عن تلمّس أبسط حقائق الوجود: "وعضضتُ على شفتيّ مذهولا… لو كنتُ أستطيع أن أرقص كلّ هذه الأفكار اليائسة! لكنني عاجز عن ذلك! لقد أسأتُ استخدام حياتي!!"(31)
ومن خلال المشهد البصريّ يبدو جون/ الراوي وقد شرع ينفلت من أسر وقاره الموهوم، وأخذ يذيب ثلجه وجليده بحركات متلعثمة بادية التعثر، تسايرها موسيقى السانتوري الحميمة، وتصفيق جمعيّ خفيّ، نسمع صداه، ولا نرى مصدره. تبدأ الموسيقى متباطئة حييّة … تخترق فضاءً ظلاميّا يوحي بحالة التوحّد الحميميّ والمشاركة الوجدانيّة العميقة بين زوربا وجون… اللذين يبدو أنهما لن ينطويا أبدا على نفسيهما، بل إن روحهما الإنسانيّة الخالصة لا تلبث أن تجتذب إليهما بقيّة الشخوص، التي لم يفكّر جون يوما في الاقتراب منها، أو فتح أبواب روحه أمامها. وهنا يتسارع الإيقاع … وكأن حالة الانفتاح الوجدانيّ تلك لن تلبث أن تستجلب معها حالة انفتاح آخر "موسيقيّ" تكف فيه السانتوري عن الغناء وحدها لترافقها بقيّة الأصوات الأوركستراليّة. وعلى نغم سريع وعنفوانيّ، معربد، يقتحم الخشبة بقيّة رجال القرية ونسائها، ويرقصون جميعهم رقصة بها كثير من التآلف والانسجام، والأخوّة الإنسانيّة، التي لا تلمح إليها الكلمات بل يقولها الجسد كله؛ بدقات الساقين العنيدتين، واختلاجات الذراعين الممتدّتين… المحتضنتين اللاشيء ! (ينظر الصورة رقم 5 ).
الصورة رقم 5 وفيها يبدو الحسّ الجمعي من خلال هذه الدبكة الجماعية، كما نلحظ الإضاءة القوية التي أتت لتكريس هذا الحسّ.
وبعد أن يصفق الجمهور طويلا لتلك الرقصة الشعبية المعبّرة… يسود الظلام من جديد، ويبدأ مشهد "The Death Of Hortense" والذي تطالعنا فيه العجوز الطيّبة وحيدة كالعادة تنتظر خطيبها العزيز "زوربا" الذي يبدو أنه لن يحضر! وبعد حركات اللهفة والحنين نفسها التي لازمتها في مشاهد سابقة نجد شيئا من التعثر يعتري حركاتها، ممّا يوحي بحالة المرض الذي لازمها، والذي حدّثنا كازانتزاكي عن كثير من تفاصيله وأعراضه. وما أن تتهاوى الراقصة التي أدّت دور العجوز فريسة المرض والحمّى حتى تظهر بضع نساء قرويّات يتشحن بالسواد علامة الحداد، ويشرعن في استلال ما يمكن استلاله من ممتلكات المحتضِرة؛ يسلبنها ثوبها الزهريّ اللامع، ووشاحها العتيق وا يتركن لها شيئا… ولكن ما أن تمتدّ يد إحداهنّ لتختطف المنديل الذي كان يوما هديّة من زوربا… حتى تقبض عليه بيأس… وتضمّه بكلتا يديها إلى قلبها… و\لا تكاد تفعل حتى يظهر زوربا… وبحركات غاضبة يبعد عنها أولئك النسوة، ويركع إلى جوارها ضارعا.. لكنها لا تلبث أن تسلم الروح بين ذراعيه .. وأمام رهبة الموت وتسلطه يسود الصمت والسكون … ويبدو زوربا حزينا لأوّل مرة. يخلع قبعته بخشوع أمام الجسد الهامد، ويطرق برأسه مهموما. ولكنه لا يكاد يفعل حتى يضاء المسرح، وتخترق صمته نغمات جديدة راقصة، بهيجة الإيقاع ويقتحم الخشبة نساء القرية ورجالها، ليرقصوا على ذاك الإيقاع الفرح رقصات ثنائيّة تتغنى ببهجة الحياة، ورونقها، وسحرها الذي لا يضاهى، الذي لن يخمد بريقه ألم، أو حزن، أو غياب.
ويبدو أن هذه الفكرة – فكرة تحدّي الحزن بالفرح والرقص – هي لبّ هذا العرض، وجوهر جميع مشاهده وحركاته، كما أنها لبّ الرواية أيضا، وجوهر جميع فصولها، التي تعجّ جميعها بكثير من الأفكار والإشكالات الفلسفيّة والوجوديّة الغامضة الصعبة، التي لا حلّ لغموضها والتباسها إلا بتجاهلها، واحتقارها كلها: بالسخرية منها، ونبذ جميع الطرق المؤدية إليها؛ نبذ الكتب التي لا جدوى منها سوى مزيد من الحيرة والضياع، والتخبّط الأعشى، الذي كثيرا ما أثار سخط زوربا وسخريته معا، نجده مثلا يخاطب الراوي غاضبا حين لم يقو على إجابته عن سؤاله الملحّ: "لماذا نموت؟" بقوله: "إذن فكلّ تلك الكتب القذرة، التي تقرأها.. ماذا تنفع؟ قل لي: لماذا تقرأها؟ وإذا كانت لا تجيب عن ذلك فماذا تقول إذن؟!"(32) وحين يخبره الراوي بأنها تتحدّث عن حيرة الإنسان الذي لا يستطيع أن يجيب عمّا يسأل نجده يصرخ مرّة أخرى غاضبا: "إلى الشيطان بحيرتها!"(33)
الصورة رقم 6 وهي مأخوذة من الحركة الأولى من المشهد الأخير " The Dance OF Zorba " وفيها يبدو جون وقد تخلى عن ارتباكه وشرع في التحرك برشاقة وتلقائية.
ولدى اشتباك الأحداث إلى هذا الحدّ، وموت المرأتين الحميمتين: مارينا وهورتانس يبدو أن الراوي/ جون قد بدأ يعي كلمات زوربا، وبدأت روحه تمتصّ بعضا من فلسفته، ورؤاه، وأفكاره، فبدأ يتخلّى عن تلعثمه الأوّل، وبدأت خطواته تنتظم، وحركاته تخفّ، وتتسارع وهذا ما نلمسه في المشهد الأخير من هذا العرض؛ وهو مشهد ال "Syrtaki" أو "Zorba's Dance" الذي يعدّ من أطول المشاهد وأقواها، وفيه تجسيدٌ دقيقٌ للحسّ الجمعيّ، نلمسه من خلال حلقة القرويّين المشتبكي الأذرع: رجالا ونساءً.. المنهمكين جميعهم في دبكة شعبيّة يتوسّطهم زوربا وقد مدّ ذراعيه معانقا الكون كله، محتضنا هزائمه وخيباته، ثمّ يأتي الراوي ببياضه الناصع ويشتبكان معا؛ تتلاحم أذرعهما، ثم تنفصل… ليدور كلٌّ منهما حول نفسه بسرعة وخفة… وشيئا فشيئا يعود اللحن إلى بطئه من جديد… ثم يتسارع من جديد وعلى إيقاع السانتوري المهيمن يدهشنا الراوي الذي كان طيلة المشاهد السابقة مرتبكا حييّا وقد انطلق بحركات سريعة ورشيقة وكأن روحه وجسده اللذين طالما سخر من جمودهما زوربا قد شرعا يتحرّران من القيود الصارمة التي أتخما بها، وأخذا يجوسان أعماق الوجود، ويتوحّدان بالأرض والتراب، والدم، والمشاعر الإنسانيّة الصاخبة.(ينظر الصورة رقم 6 والصورة رقم 7 ). ولا يكاد جون يتطهّر بحركاته الدورانيّة تلك حتى يبدأ زوربا من حيث وقف… ويتابع محاورتنا بجسده. وبنبضه، وعروقه… يسدل الستار… وينتهي العرض.
الصورة رقم 7 ومن الحركات الأخيرة في المشهد السالف، وفيها يشرع زوربا وجون في رقصتهما الأخيرة، التي يسايرهما فيها بقية سكان القرية.

الخاتمة:

كانت هذه قراءة لأبرز جماليات باليه زوربا اليوناني، حاولت من خلالها ربط هذا العرض بأصله الأول المكتوب: الرواية. ويمكن اختصار أبرز هذه الملامح الجمالية في بعض النقاط أبرزها: الثنائيّة الطاغية على التوزيع الموسيقي؛ فثيودراكيس عمد لدى كتابة هذا العرض إلى الجمع بين الطابع الشرقي اليونانيّ، والطابع الكلاسيكي الغربي: هذه الثنائيّة الصوتيّة نلمسها بوضوح من خلال بعض المشاهد التي كانت موسيقاها شرقيّة / يونانية خالصة، مثل : "Zeibekikos songs"و"Tsiftetli" و"Asteraki" وطبعا Syrtaki ومشاهد أخرى كانت موسيقاها – وإن كان الطابع اليونانيّ فيها واضحا – تميل إلى الطابع الكلاسيكيّ الغربي الرصين، مثل: "Madame Hortense" و"The Dance Of Love"، وغيرهما. وبناءً على هذا الازدواج الموسيقي فإن حركة الراقصين وبالتالي صورتهم البصريّة ستزدوج أيضا بين الحركات الراقصة المرتبطة بالبيئة الشرقيّة؛ كصورة الراقصات الشرقيّات في مشهد " Tsiftetli " وصورة الدبكة الجماعيّة في كثير من المشاهد؛ أبرزها المشهد الأخير، والحركات الراقصة المرتبطة بفن الباليه بوصفه فنا عالميّا، رصينا، تحكم حركاته قواعد وأصول ثابتة، أبرزها الحركات الدورانيّة، التي تعدّ من أبرز سمات هذا النوع من الرقص. وما نلحظه أن لكلّ رقصة حركاتها المميّزة؛ فرقصة الفالس – مثلا – تعتمد على التمايل الرشيق والهادئ للجسدَيْن الراقصين، ورقصة الفلامنكو يعتمد على حركة الذراعين الرشيقة، وكذا على دقات الساقين المحاكيتين دقات الموسيقى، ورقصة السالسا اللاتينية تعتمد على الاهتزاز الصاخب والسريع للجسد كله، ورقصة التانغو تعتمد على براعة الراقصَيْن في خطواتهما المقبلة والمدبرة، وعلى حركة الساقين خصوصا، والردح العراقيّ أو "الجوبي" يعتمد على تحريك الرأس بسرعة وجنون بشكل دائريّ، ويعتمد أيضا على أن يكون شعر الراقصة طويلا، والرقص الشرقيّ يعتمد على حركات هزّ البطن… وغيرها.

وإن عُدّ هذا النوع الأخير من أشد أنواع الرقص ابتذالا، فإن النوع الذي يعنينا الآن – وهو رقص الباليه – يعدّ من أرقى هذه الأنواع، وأنبلها؛ ربما لصعوبته النسبيّة، وربما لأنه بدأ من قصور الملوك والنبلاء، وربما لاقترانه بنصوص أدبيّة راقية، أو لحركاته الدورانيّة، التي تبدو بسرعتها، ورشاقتها وكأنها تحاكي اللانهاية… والمطلق. وما نلحظه على هذا العرض أيضا هو التوظيف الفنيّ للإضاءة، والانسجام الواضح بينها وبين المقاطع الموسيقيّة، والأداء الكوراليّ لفرقة المنشدين، التي نلحظ أن صوت المغنية المفرد فيها يظهر في أشدّ المواقف حميميّة وعاطفيّة، بينما يظهر صوت الفرقة كلها؛ أعني الصوت الجمعيّ للمنشدين في المواقف الجمعيّة للراقصين. أمّا فيما يخصّ الأفكار الفلسفية التي عجّت بها الرواية، والتي تعدّ عنصرا مفصليّا شديد الرسوخ فيها، فإن هذا العرض الراقص لم يستطع – طبعا – قولها أو الخوض فيها جميعها، ولكنه أوحى بكثير منها؛ فمن خلاله فهمنا – مثلا – أن الحياة فسحة وجوديّة شديدة النفاسة، من العار أن تضيع في الحزن والكآبة، وأن الحب والانفتاح على الآخر هما أغلى ما يمكن أن يجود به الإنسان، بل هما وحدهما ما يمنحه صفة الإنسانيّة.
وعليه فإن جمالية البصريّ ستختلف – حتما – عن جمالية المقروء ، بل ربما فاقتها حضورا بسبب الإقبال الشعبي والجماهيريّ عليها، بعكس المقروء الذي قد لا يغري سوى فئة قليلة؛ هي فئة المثقفين، وأصحاب الاختصاص، وربما هذا ما يفسر أن كثيرا من الناس تستهويهم موسيقى زوربا، وفلسفة زوربا، ورقصة زوربا، ولكن أغلبهم ينسى أن هذا المخلوق الأسطوريّ؛ هذا ال "زوربا" لم يكن سوى كائن حبريّ يحيا ويتحرّك بين دفتي كتاب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.