نيوزيلندا تعلن عن تقديم مساعدات إنسانية لغزة بقيمة 5 ملايين دولار    وهران: ملتقى وطني قريبا حول "السياحة بوهران: الواقع والآفاق"    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 37 ألفا و347 شهيدا    ألعاب القوى/البطولة الافريقية 2024: المنتخب الوطني بعين المكان بدوالا    تنس/كأس/دايفس-2024: المنتخب الوطني يتنقل إلى أنغولا    التجمع الدولي بمدينة تروا: الجزائري محمد علي قواند يفوز بنهائي (ب) لسباق 800م    عيد الأضحى : استجابة واسعة لنظام المداومة من طرف التجار في ثاني أيام العيد بباتنة وسطيف وعنابة    موجة حر بعدد من ولايات البلاد غدا الثلاثاء    الدكتورة هدى جعفري: نرتقب جمع قرابة 3 ملايين من جلود أضاحي العيد خلال سنة 2024    حماية وترقية الطفولة: جمعيات تثمن المكاسب المحققة وتدعو إلى تعزيز آليات المرافقة    صحة: التشجيع على دمج الذكاء الاصطناعي في تطوير أساليب العلاج    تأمينات: ضرورة إعداد قواعد للحوكمة الرشيدة في سياق القانون الجديد    "سيال" ترفع الإنتاج اليومي من المياه    تراجع أسعار النفط    انتخاب الجزائر في لجنة التراث الثقافي اللامادي باليونسكو "اعتراف" بدور الجزائر في مجال صون التراث وطنيا ودوليا    عيد الأضحى: إلتزام شبه كلي للتجار بنظام المداومة في اليوم الأول بنواحي سطيف و باتنة و عنابة    انتخاب الجزائر في لجنة التراث الثقافي اللامادي باليونسكو "اعتراف" بدور الجزائر في مجال صون التراث وطنيا ودوليا    صندوق ضمان قروض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة: مرافقة أكثر من 4000 مشروع بقيمة 532 مليار دج    عيد الأضحى: رئيس المجلس الشعبي الوطني يهنئ الشعب الجزائري    عيد الأضحى: رئيس مجلس الأمة يهنئ الشعب الجزائري    الجزائريون يحتفلون بعيد الأضحى المبارك في أجواء من التآخي والتآزر والخشوع    عيد الأضحى: رئيس الجمهورية يهنئ أفراد الجيش الوطني الشعبي والأسلاك النظامية وعمال الصحة    شرق البلاد: المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى في أجواء إيمانية و روحانية    رئيس الجمهورية يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بجامع الجزائر    ضيوف الرحمن ينفرون من عرفات إلى مزدلفة    الخطباء يدعون الحجاج الجزائريين بعرفة الى العمل على اتمام مناسك الحج على اكمل وجه    وزارة الثقافة والفنون: قبول 118 مشروعا فنيا للاستفادة من إعانة مالية بعنوان سنة 2024    الجزائر- إيطاليا: اتفاق استراتيجي لإنجاز مشروع ضخم للحبوب والصناعات الغذائية بتيميمون    مشاركة الشباب في الانتخابات فعل حضاري وديمقراطي راقي    اتصالات الجزائر تضمن استمرارية خدماتها خلال ثاني وثالث أيام عيد الأضحى    افتتاح الطبعة ال19 لتظاهرة "أندلسيات الجزائر" بالعاصمة    كندا تستضيف قمة قادة مجموعة ال7 المقبلة    رئيس الجمهورية يغادر باري الإيطالية عائدا إلى أرض الوطن    رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا يفوز بفترة ولاية ثانية    حجاج بيت الله الحرام يتجمعون بصعيد عرفة الطاهر لأداء مناسك الركن الأعظم في الحج    شبح المجاعة يهدد مجددا أرواح سكان غزّة    البعثة الجزائرية للحج أصبحت نموذجية    تصفيات مونديال 2026: صادي يؤكد التزام الفاف بتوفير كل وسائل النجاح لبيتكوفيتش    الجزائر حاضرة ب21 رياضيا ورياضية في البطولة الإفريقية لألعاب القوى بالكاميرون    شركة الخطوط الجوية الجزائرية: إطلاق رقم أخضر لمتابعة عملية نقل الحجاج و المعتمرين    فلسطين تُثمّن قرار الرئيس تبّون    سونلغاز ونفطال: توفر المنتجات واستمرار الخدمات أيام عيد الأضحى    الجمارك الجزائرية تفتح باب التوظيف    قباضات الضرائب مفتوحة استثنائيا اليوم    استعراض فني للتاريخ    أسعى جاهدة لتطوير نفسي أكثر    الاتحادية الدولية لكرة السلة تؤكد على رزنامة التصفيات    حماد يعلن عن إنشاء منصة رقمية خاصة ب"النخبة"    دعوة إلى تصنيف "الضغط الرئوي" ضمن الأمراض المزمنة    ارتفاع فاحش في أسعار الخضر والفواكه عشية عيد الأضحى    من يستقطب اهتمام المشاهدين؟    "الأونروا": العدوان الصهيوني سلب أطفال قطاع غزة طفولتهم    إدانة "فيسبوكي" سرّب مواضيع البكالوريا    الحجاج يشرعون في صعود عرفة تحسبا لآداء الركن الأعظم    هكذا أحيى النبي وأصحابه والسلف الصالح الأيام العشر    تساؤل يشغل الكثيرين مع اقتراب عيد الأضحى    نافلة تحرص العائلات على أدائها طمعا في الأجر والمغفرة    الذكر.. مفتاح الرزق وزوال الهم والغم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرايا عاكسة
نشر في الجمهورية يوم 09 - 12 - 2019

تحوّل بعض علماء السرد والسيمياء، إلى العناية بمجالات أخرى، مبتعدين تدريجيا عن الصرامة المنهجية التي عرفوا بها في بعض بحوثهم المؤسسة للمناهج الجديدة. وإذا كان "خطاب الحكاية" لجيرار جينيت هالة شبيهة بفن الشعر لأرسطو، من حيث القيمة والدقة والتقنيات، فإنّه، بدأ يخفت تدريجيا في المقاربات السردية الغربية، ليس بسبب جانبه العلمي، أو لأنه متجاوز، إنما بفعل التحوّلات التي تشهدها المعرفة وكيفيات تناولها تأسيسا على تحوّل الأدوات نفسها.
يمكننا استنباط هذا المتغير من كتاب أمبيرطو إيكو الموسوم "آليات الكتابة السردية، هوامش على اسم الوردة"، إضافة إلى "غابة السرد"، الذي يعدّ نوعا من التراجع عن آليات الدراسات السيميائية، والنزوع نحو إقامة وزن للتأويل والسياق والمؤلّف، كما كان هذا الكتاب بحثا في الموروث والعلامة والمعجم والثقافة والدلالة، وبطريقة مختلقة عن تلك التي اتبعت في كتابه: "البنية الغائبة".
وقبل ذلك شهدت اهتمامات علماء السرد عدولا بتوجهها نحو التاريخ والفلسفة وسيميائية الثقافة. نتذكر جهود يوري لوثمان التي اهتمت بالمعرفة كأشكال وجواهر، وكأنثروبولوجيا. أكان ذلك إيذانا بوصول المنهج الواصف إلى أفق مسدود، كما حصل للبلاغة العربية، ما جعلها تكرر نفسها؟ ربما كان للأمر علاقة بمعيارية الدراسات التي غدت متقاربة بسبب انسداد أفق الأدوات ووقوعها في التكرار، مع انمحاء التمايز بين الدراسات النقدية، وبين النصوص المدروسة كذلك. إلاّ أنّ هناك عنصرا آخر سيقود إلى مساءلة علم السرد والمناهج البنيوية: مسألة المعنى، كما يظهر بجلاء في كتاب "الأدب في خطر "لتزفيتان تودوروف، بصرف النظر عن الانتقادات التي وجهت له.
هذا الكتاب هو مراجعة للخيار السابق الذي أنتج بعض الدراسات التي أدت إلى ظهور المنهج الجينيتي، وغيره من المقاربات التي سبقته أو عاصرته: جوزيف كورتيس، فيليب هامون، ميشال بوتور، جان ريكاردو... كما أنّ علم السرد الجديد، في إرهاصاته البدئية، هو إقرار ضمني بنوع من الانكفاء الذي وجب تجاوزه بترقية آليات المقاربات الستينية والسبعينية، وما تلاها من تطبيقات آلية في البحوث اللاحقة.
وإذا كان المنظور الجديد في طور التأسيس، بالنظر إلى حداثته (1997) مع دافيد هرمان في عناصر علم السرد الجديد، وآفاق التحليل السردي الجديد (1999)، وتاريخ نظرية السرد، من البنيوية إلى اليوم لمونيكا فلودرنيك (2005)، فإنه يعتبر الدراسات السابقة حلقة من حلقاته، ومكوّنا لمجموع الاجتهادات التي يقوم بها بحثا عن قراءة ملائمة تدخل في باب المقاربات الحلقية التي اشتهر بها العقل الغربي. يطرح هذا المنظور السؤال ذاته الذي طرحه السابقون: ما المحكي؟ سيفعل ذلك انطلاقا من عدة زوايا، غير تلك التي بنى عليها علم السرد.
لذلك يبدو مختلفا على عدة أصعدة، سواء في نظرته الشمولية أو في انشغالاته، بالعودة إلى الجهود المنحسرة التي ميزت الرواد، أولئك الذين كانت لهم منطلقات أخرى لها مسوّغاتها العلمية والسياقية، ومن منطلقات التصور المنهجي البديل الذي يمكن أن يحلّ محلّ علم السرد الفرنسي مع مختلف أقطابه: اعتبار علم السرد الجديد كلّ مقاربة تهتم بدراسة الخطاب السردي، وليس فقط ما ينضوي تحت نظرية الأدب والمقاربات البنيوية، ومن ذلك:
توسيع حقل الدراسات لتشمل التاريخ والسينما والحديث والصورة بأنواعها والموسيقى والحقوق والاقتصاد السياسي والطب، وكل ما يمكن أن ينتظم سرديا ويحمل معنى أو دلالة ما، سواء كان أدبيا أم غير أدبي، كتابيا أم شفهيا، مقروء أم مرئيا (التوجه ذاته نلاحظه في بعض الدرس السيميائي الجديد وتحولاته). ما يعني أننا قد نصل لاحقا إلى بلورة علم سرد يشمل عدة مجموعات تحتية ستصبح موضوعات مهمة لم يعتن بها علم السرد في دروسه، ومنها: علم سرد الأعراق، علم السرد النفسي، علم السرد الاجتماعي، علم السرد الإعلامي، علم السرد الديني، علم السرد الخرافي، علم السرد الأسطوري، إلخ.
استعمال وسائل متنوعة في المقاربات، وليس اللسانيات البنيوية وحدها، بل لسانيات التواصل، علم الاجتماع اللساني، علم النفس اللساني، وكل الوسائل التي توفرها العلوم المعرفية والنصية، دون أي تمييز بينها من حيث إنها متكاملة كبنى صغرى تدخل في باب تكوين الخطاب المركب لا يبني على معرفة واحدة، لأن التنويعات من الخصائص الأساسية للنص الذي قد يشمل الشعر والسياسة والجغرافيا والدين والفلسفة، وغيرها من الموضوعات.
تبنيّ التوجهات المختلفة المعروفة في مختلف المناهج الأدبية واللسانية، وغيرها: الحوارية، البلاغة، المنطق، الفلسفة، الشكلانية، الظواهراتية، الأرسطية، مباحث الاستعارة، علم الأخلاق، الانطباعات المعرفية، الآراء السياسية، التاريخ، الأنسية: أي الاهتمام بهذا التعدد الممكن الذي من شأنه الإحاطة بالخطاب من جوانب مختلفة لا يمكن القبض عليها بتطبيق المنهج السردي الواصف ومختلف آلياته الصارمة.
وأمّا الأسئلة المؤسسة فلا تركز على الكيفية وحدها، أو على شكل الإنتاج والعلاقات السببية، ما بين الأفعال والحالات، بل على مجموعة من العناصر التي تدخل في الكيفية واللمية: قابلية المحكي للحكي، التداخلات المعرفية، وظيفة الحكاية ( وليس فقط كيفية اشتغالها، معنى المحكي ( وليس فقط كيفية تمفصل المعنى في النص الشعري أو الروائي أو القصصي)، حركية المحكي كعملية إنتاجية ( وليس المحكي كنتاج مستقل عن السببية الخارجية، كالكاتب والمحيط ومختلف المؤثرات المحتملة )، علاقة السياق بالمحكي وتأثيراته، أهمية الأدوات التعبيرية، العلاقة بين المحور الأفقي والمحور العمودي...إلخ.
ما يدلّ على نوع من التوفيقية التي ستكون أكثر ليونة، أي على شاكلة الخيار الذي اتبعه المنهج التكاملي، أو التداولية، باستفادتها من حقول أخرى، ومن ثمّ تخليها عن الصرامة التي سلكتها اللسانيات البنيوية، غير أن هذا ليس انتقاصا من قيمتها، وليس مدحا للتجربة الجديدة. وإذا كنا لسنا متيقنين من النتيجة التي ستصل إليها هذه المشاريع التي تبدو مترددة، فإنّ الرؤية الجديدة تقرّ بصعوبة المهمة، ومنها كيفية التعامل مع التأويل، كعنصر من عناصر القراءة.
يشير الطرح الجديد إلى التأويل في عدة سياقات، ويقرنه بضرورة توفير مكان للمتلقي في إنتاج النص واستقباله، أي أنه يريد أن يفرد للقارئ مجالا أوسع من مجاله السابق، أكثر حرية من الضوابط التي فرضها علم السرد السبعيني وأتباعه، وذلك بطرح أسئلة تمّ إبعادها سابقا لأنها لم تكن مهمة بالنسبة للدارسين.
ويفهم من وراء هذا أن هناك محاولة لإعادة إدماج فئة واسعة من القراء والاهتمامات التي فقدت مكانتها في المقاربات الانتقائية السابقة. غير أنّ التحليل البديل يبدو مائعا وواسعا بالنظر إلى مرجعياته الكثيرة، وإلى تعدد المساند. إضافة إلى ذلك، هناك معضلة التأويل وحدوده الممكنة. لذا لا نعثر، في هذه الاجتهادات، على مقترحات دقيقة من شأنها ضبط المعايير التي يقوم عليها الفعل التأويلي الذي قد ينحرف عن النص باتكائه على الذات ومستويات الفهم التي لا ضوابط لها.
يذهب دافيد هرمان إلى اعتبار المتلقي جزءا من المشروع، ومن ثمّ ضرورة معرفة موقفه من الملامح السردية وأهميتها وتبايناتها، ما يؤدي، بالضرورة، إلى أمرين اثنين: التأويل والموقف، ونقصد بالموقف بعده المركب: الأسلوبي، البنائي، النحوي، الجمالي، الفني، لأنّ الحديث عن الأهمية يدخل في باب الموقف، مع ما للموقف من مرجعيات يتعذر ضبطها لعلاقتها بالذات ومتغيراتها، بالسياق والنفس والذوق والتكوين، وبمختلف العوامل التي قد تؤدي إلى مسوخ تأويلية تشوه النص ومقاصده.
وإذا كانت الآليات السردية مع جينيت تتكئ على الموضوعية في التناول من حيث إن الدراسات تقنية، أو على علمنة السرد، فإنّ المقترح الجديد بصدد التنازل عن هذه النزعة لفائدة الانتشار، أو من أجل التوسع وإشراك مختلف المقاربات، على تباعدها وعدم اتساقها منهجيا ومصطلحيا. كما يطرح هؤلاء السؤال الذي كان يجب طرحه سابقا: على أيّ أساس سيعتمد القراء لاختيار هذا التأويل دون ذاك؟ الإجابة ليست جاهزة حاليا، على الأقل من الجانب الإجرائي، ومن ثمّ فرضية اللجوء إلى الأجوبة المؤسسة تجريبيا، بانتظار أن تتضح الرؤية.
يبدو الأمر غاية في التعقيد، لأنّ التفكير في تأسيس مخابر خاصة باستنباط مستويات التأويل أمر لا يخلو من المفارقات، ثم إنه ليس من السهل تقنين التأويلات عندما يكون هناك تباين في أفعال الإدراك، وإذا حدث ذلك، على المستوى الفعلي، وليس على المستوى النظري البحت، فإننا سنتجه حتما نحو شكلنة التأويل لتفادي القراءات التبسيطية، ويمكن القيام بذلك على طريقة فلاديمير بروب في مورفولوجيا الحكاية الشعبية، أو علمنته، على طريقة السيميائيات مثلا، ثم إضافة ما يمكن أن يرتبط بالدلالات والبنى العميقة، دون الابتعاد عن الأطر الأكاديمية.
وسيكون الفرق واضحا لاعتماد بروب على مدوّنة متناغمة ومحدودة، في حين أن التجريب يرتبط بالذوات المؤولة في عددها اللامتناهي، أي بالمرجعيات المتحولة التي يبني عليها القارئ في التعامل مع المرويات، خاصة في حالة النصوص الرمزية، أو في حالة النصوص المفتوحة، وقد يواجه علم السرد الجديد مشكلة المقاصد المركبة، مقاصد المؤلف ومقاصد المؤول في الوقت ذاته، علما أنّ المؤول يخضع للمتغيرات، أكثر من خضوعه للمعيار الذي يبني على معرفة، وليس على الاحتمال اللامتناهي.
مع ذلك فهناك مسعى للتأسيس لعلم سرد تجريبي مفاده: القدرة على إنتاج مرويات وتأويل النصوص كمرويات. لكننا لا ندري تحديدا إلى أيّ مدى سيتقاطع المشروع التأويلي مع المشاريع السابقة، إن كان سيضع إطارا عاما، أي مجموعة من الحدود الموجهة للقراءة، ومن ثم تحوله إلى نظام علمي، أم سيكتفي باقتراح نماذج تقريبية لتحرير القراءة من ضغط المنهج الواحد، دون ضوابط وتحديدات؟ ما يسهم في بلبلة الخطاب، إن لم يصبح تابعا للقارئ، مع ما يمكن أن تطرحه مستويات التلقي من إشكالات معقدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.