انطلاق الاختبارات التطبيقية في شعبة الفنون.. لأوّل بكالوريا    استعراض مستجدات فلسطين وسُبل وقف العدوان الصهيوني    إكبار وإجلال للجزائر ورئيسها لموقفها المساند قولاً وفعلاً للشعب الفلسطيني    مخلفة خسائر في الأرواح والمعدات في صفوف قوات الاحتلال: الجيش الشعبي الصحراوي يستهدف قواعد عسكرية مغربية    السلامة والصحة في الوسط المهني.. أولوية أولويات الجزائر    تحدّ آخر يرفعه الرئيس تبون.. وإنجاز تاريخي    مواجهة كل من يسيء للمرجعية الدينية ولثورة نوفمبر    تباحث سبل التعاون المشترك في العلوم الطبية    بطولة إفريقيا لكرة الطائرة/ سيدات: فوز مشعل بجاية مام آسيك ميموزا الإيفواري    كأس الجزائر لكرة القدم داخل القاعة: ناديا القصر وأتلتيك أقبو أوزيوم ينشطان النهائي في 2 مايو بالقاعة البيضوية    الدورة الأولى للمشاورات السياسية بين البلدين مقرمان يترأس مع نظيره بالدوحة مضامين مذكرة التفاهم    إتصالات الجزائر ترفع سرعة تدفق الأنترنت إلى 1 جيغا    قسنطينة: دخول "قريبا" فندق سيرتا العمومي حيز الخدمة بعد إعادة تهيئته    برج بوعريريج.. 152 مليار لتحسين واجهة عاصمة الولاية    العرباوي يحل بنيروبي للمشاركة في قمة المؤسسة الدولية للتنمية من أجل تعبئة الموارد لإفريقيا    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    النخبة الوطنية تتألق في موعد القاهرة    الترجي التونسي لدى الرجال يتوّج باللقب    برج بوعريريج.. 7 مخازن عملاقة لإنجاح موسم الحصاد    الحراك الطلابي العالمي الدّاعم للفلسطينيّين يصل إلى كندا وأوروبا    كتابة الدّولة الأمريكة تُوجّه انتقادا حادّا للمخزن    سونلغاز تفتح أزيد من 550 منصب شغل بولايات الجنوب    وزير الموارد المائية والأمن المائي من سكيكدة: منح الضوء الأخضر لتدعيم وحدة الجزائرية للمياه بالموظفين    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على افتتاح أشغال الاجتماع السنوي لإطارات العتاد    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: انطلاق ورشات تكوينية في مهن السينما لفائدة 70 شابا    "حكاية أثر" مفتوحة للسينمائيين الشباب    مولودية الجزائر.. خطوة عملاقة نحو التتويج باللقب    الصحراء الغربية: إبراز دور وسائل الإعلام في إنهاء الاستعمار خلال ندوة بالإكوادور    الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى    انطلاق أشغال منتدى دافوس في الرياض بمشاركة عطاف    لحوم الإبل غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات    داس عنابة يؤكد: مرافقة قوية لمسنين دار الصفصاف لإدماجهم اجتماعيا وتدعيمهم صحيا    الصهاينة يتوحّشون في الضّفة    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و454 شهيدا    الرئيس يكرّم قضاة متقاعدين    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: طرح الصعوبات التي يواجهها المخرجون الفلسطينيون بسبب الاحتلال الصهيوني    بغالي: الإذاعة الجزائرية ترافق الشباب حاملي المشاريع والمؤسسات الناشئة من خلال ندواتها    مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري يثمن قرار خفض نسب الفائدة على القروض الاستثمارية    البليدة: إطلاق أول عملية تصدير لأقلام الأنسولين نحو السعودية من مصنع نوفو نورديسك ببوفاريك    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة بالنسبة لمطار أدرار    مؤسسات ناشئة: إطلاق مسابقة جوائز الجزائر للتميز    فلسطين : العدوان الإرهابي على قطاع غزة من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ    مباشرة إجراءات إنجاز مشروع لإنتاج الحليب المجفف    استئناف أشغال إنجاز 250 مسكن "عدل" بالرغاية    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    15 ماي آخر أجل لاستقبال الأفلام المرشحة    أكتب لأعيش    الاتحاد لن يتنازل عن سيادة الجزائر    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    رياض محرز ينتقد التحكيم ويعترف بتراجع مستواه    بيولي يصدم بن ناصر بهذا التصريح ويحدد مستقبله    إنجاز جداريات تزيينية بوهران    تفكيك مجوعة إجرامية مختصة في السرقة    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالات الثقافة وكينونة الهوية
من خلال كتاب "مؤانسات ثقافية" للأستاذ بشير خلف
نشر في الجمهورية يوم 27 - 01 - 2014

يطوف بنا الكاتب بشير خلف ؛ من خلال سؤالي الثقافة والهوية ؛ حول عناصر الثقافة المختلفة، وماهية الهوية بتركيباتها وخصائصها، ليخلص إلى أن الثقافة: هي نتاج العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به، أما الهوية فهي التميّز التركيبي ثم التفرُّد الثقافي بما فيهما من مقومات ومواصفات وخصائص تُميز صاحب الهوية بعينه...
فعلى هذا النسق الفكري والمعرفي يقدم لنا الكاتب مؤلفه الجديد:"مؤانسات ثقافية" والذي يعالج بين فصوله العديد من الإشكالات الفكرية،نَسَّقها الكاتب وقدمها ضمن محاور ثقافية مختلفة؛اخترنا منها محورين أساسيين،وهما: الثقافة..مفاهيم وإشكالات الهوية..الكينونة المركبة
وبشير خلف الذي عهدناه أديبا وقاصا مبدعا؛بل وممن تطوَّر على أيديهم الفن القصصي الجزائري في مراحله الأولى، فهو من الجيل المثابر لفترة السبعينات من القرن الماضي.
قدم بشير خلف للمكتبة السردية في الجزائر خمس مجموعات قصصية كان لها تأثيرها على الساحة الإبداعية، و بها عُرف كاتبنا ؛ إلا أن القارئ والمتتبع لإبداعه عموما يلاحظ أن الكاتب – ومنذ مطلع القرن الحالي– قد توجه نحو الدراسات الفكرية، والبحوث الثقافية ذات الطابع العلمي التأملي والثقافي؛ منها خمس دراسات تتمحور حول العلم والأدب والفنون والجمال، وثلاث وقفات تأملية حاور فيها الكاتب الفكر والثقافة، وهي الكتب الأخيرة التي تحمل العناوين التالية : "وقفات فكرية" – "مرايا" – و"مؤانسات ثقافية " ، والعنوان الأخير هو محل نظرنا في هذه القراءة؛ وهو الكتاب الذي صدر حديثا عن دار الهدى لسنة2013 . وقد قدم الكاتب محتوى كتابه في ستة محاور أساسية عالج فيها العناوين التالية :
(( الثقافة – الهوية – التربية – الإبداع الأدبي – شخصيات وأعلام – حوارات مع الصحافة))
طبق الكاتب في دراسته لهذه المواضيع منهج التوصيف، والتحليل، والتحجيج، وانعكاس النتائج المُستخلصة على التنمية البشرية، والارتقاء بالفكر الإنساني نحو البناء والتطور. ويمكن الوقوف على محتوى المحورين الأولين-وهما المختاران للقراءة في مقالنا–على الشكل التالي:
المحور الأول "الثقافة":
وفيه نتعرف على المفاهيم المختلفة للثقافة وإشكالاتها، كما يعرض فيها الكاتب لراهن الثقافة عموما، وما يُتطلع إليه في مستقبلها، حيث يعالج الكاتب أفكاره على النحو التالي:
الثقافة.. مفاهيم وإشكالات: ينطلق الكاتب من مقولة تمهيدية للكاتب الانكليزي "ماثيو ارنولد" حول الهدف من الثقافة: "وهو أن نوجِّه أنفسنا نحو الكشف عن الكمال"(ص13)، ليقدم لنا تعريفا شاملا للثقافة ومكوناتها ، متنقلا بين كبار المفكرين ك:"مالك بن نبي" ورؤيته للثقافة ومفاهيمها، مستعرضا لمفهوم الثقافة لدى بعض المؤسسات الثقافية الكبرى كمنظمة اليونسكو، لينتقل بنا الكاتب بين أهمّ القواميس اللغوية، والمجامع العلمية التي تناولت مصطلح الثقافة، وانجازاتها الفكرية والحضارية بأبعادها الإنسانية والتنموية، ليحطّ الكاتب بنا الرحال في المجتمع الجزائري، متسائلا في عنوان بارز عن: أثر الثقافة في الإنسان الجزائري ؟ ليواجهنا إثرها بجواب فيه الكثير من التشاؤم ! عندما يعرض للثقافة السلبية التي ينهل منها الإنسان الجزائري، والتي هي وليدة القيم المادية الصرفة (ص23)
وإن كان الكاتب سيستدرك الأمر نسبيا عندما يعرض ل:راهن المشهد الثقافي الجزائري (ص25) عندما يسجل عودة العمل الثقافي إلى الواجهة، وانسحاب الدولة من تأطير وتكوين المجال الثقافي، والطلاق مع الدائرة الإيديولوجية خاصة بعد عودة الأمن والاستقرار للوطن، وهي مؤشرات إيجابية لبروز دورٍ مستقبلي مُتميز للمثقفين في الجزائر. وتحت عنوان فرعي:
المثقف..الراهن والمأمول: يعرض الكاتب للنظرة القاصرة من طرف العامة للثقافة، ليطرح السؤال الجوهري : من هو المثقف ؟ لينتقل بنا الكاتب بين المعاجم العربية، وبين المفكرين، والفلاسفة كالفيلسوف "الفرنسي لالاند" و"المفكر اللبناني صليبا" ليصل بنا إلى أن المثقف ليس صفة مهنية، ولا رتبة أكاديمية، بل هي نضال يتجاوز دائرة الاختصاص، تفسيرا لمنطوق الفيلسوف سارتر((.إنسان يتدخل فيما لا يعنيه..(ص29)).وبحثا عن حقيقة المثقف، وتأثيره يطوف بنا الكاتب عبر الخارطة الثقافية العالمية من " نعوم تشو مسكي" غربا إلى "محمد جابر الأنصاري" شرقا إلى "ادوارد سعيد" وسطا ليصل بنا إلى أن المثقف الحقيقي هو الذي يقرأ الواقع وينقده، ثم يعيد تشكيله عير أسئلة الوجود المقلقة، ناشدا التطور والتقدم لمجتمعه .
وبسبب علاقة المثقف بالسلطة نعى كاتبنا المثقفَ العربيَّ ! الذي استكان تحت المظلة الأيديولوجية، أمّا في الغرب فإن مقولة موت المثقف ليست صحيحة، لِكوْن المثقف هناك قد أدى دوره وترك آثاره، وفي المقابل فإن المثقف العربي – حسب قول الكاتب- قد انتحر باختياره لمّا مدح الخليفة ومجّد عرش السلطة وراء جوائز البترودولار (ص38). في حين يفتقد المثقف الجزائري التجذر الاجتماعي، وكذا وسائل التأثير؛ كما أن علاقته بالوظيفة (عامل لدى السلطة والايدولوجيا) تُعيق حركيته وتَمَيُّزَهُ الاجتماعي.
كما يعرض الكاتب للمشهد الثقافي العربي ليخْلُص إلى أن أزمة المثقف العربي من أزمة الأمة، وأزمة الدولة القومية التي عانت الركود والتأخر والتبعية. وفي ربطه للعلاقة بين الثقافة وتقدم التنمية؛ انتقد الكاتب التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية خاصة في ترتيبه للجزائر، مقدما دلائل وأرقاما تعكس الحركية الثقافية خاصة في طباعة الكتب، والتفاعل الثقافي بين الولايات، كما ناقش الكاتب التناقض العربي في حركة التنمية، وساند رأي الكاتب "سليمان العسكري" الذي دعا في "مجلة العربي" إلى : " تنمية البشر قبل الحجر"، وهي إشارة إلى تشييد الأبراج، والعمارات (بطرازها الأجنبي) في دول الخليج، والمباني التجارية الضخمة، وما إلى ذلك، حيث دعا إلى ضرورة التركيز على الإنسان لأنه محور التنمية وغايتها (ص54).
وعلى اعتبار أن الفساد هو كل اعتداء على حقّ المواطن، والمجتمع الذي يضمنه الدين والقانون الطبيعي والوضعي؛ فقد أشار الكاتب إلى أن ثقافة المجتمع قد تُرسِّخ الفساد، وأن الإعلام الحر هو الذي يفضح الفساد ، ويعرّي مرتكبيه (75).هذا الفساد الذي يتخفّى تحت تبادل المصالح، وتشجعه ثقافة مجتمع تصف مغتصب المال العام ب:" الشاطر" على أساس أن ثقافة النصب، والاختلاس هي القاعدة! ليتساءل الكاتب مرة أخرى؛ لماذا الفساد عمّ جسد المجتمع الجزائري؟
ليخلص إلى أن الثقافة المجتمعية الواعية وحدها البديل (ص82). وفي معرض حديثه عن أهمية الرياضة، وأولوية الأخلاق فيها؛ أشار الكاتب إلى إمكانية أن تكون سفير سلام بدل أن تكون نارا يؤججها مراهقون؛ في إشارة إلى المقابلة الكروية بين الجزائر ومصر . كما دعا الكاتب إلى ضرورة أن تسمو ثقافة التسامح في هذه الحالات ..
المحور الثاني "الهوية":
وفيها يعرض الكاتب لمفهوم الهوية ومركباتها المختلفة ، خاصة في علاقتها بالتراث والتاريخ واللغة وما إلى ذلك
الهوية.. الكينونة المركبة: يرى الكاتب في سؤال الهوية أنها مُجمل السّمات التي تميز شيئا عن غيره شخصًا أو مجموعة ، أي الهوية الشخصية أو الهوية الجمعية، ثم يعرض للهوية الإسلامية عند "محمد عمارة "، والهوية بمعنى التفرُّد الثقافي ، والهوية عند "تركي الحمد":( مادامت متركبة من عناصر فهي بالضرورة متغيرة )، وعند الدكتور "أحمد بن نعمان"' : (الشخص أو الشيء كما هو في الواقع بخصائصه ومميزاته (ص99).ثم يعرض لنا الكاتب أهم مكونات الهوية : كاللغة الوطنية، واللهجات المحلية – القيم الدينية والوطنية – العادات والتقاليد والأعراف- والتاريخ النضالي للمجتمع ، وتفاعل كل هذه العناصر مع محيطها الإقليمي والقومي والعالمي .
وعن سؤال الهوية كسؤال فكري مُلحٍّ، يطرح الكاتب أزمة الهوية ؟ وفي مقدمة الأسئلة الفكرية بل والمعرفية يطرح السؤال: من أنا ؟ وما الذي يميِّزنا؟ بل ما وجه الاختلاف مع الآخر؟ ليستخلص الكاتب بأن: لازال مفهوم الهوية يلفّه الكثير من الغموض، كما قد تكون الهوية أداة صراع ، كالوضعية الكولونيالية التي عرفتها الجزائر. كما قد توظف الهوية من أجل أغراض شخصية أو سياسية، كأن تكون بغرض الوصول إلى السلطة ، أو الحصول على مكاسب اقتصادية أو سياسية؛ فيقع الصدام نتيجة العنف السياسي الذي قد يؤدي إلى العنف الدموي، كما قد تتدخل أطراف خارجية في تجنيد أطراف داخلية بدافع حماية أقليات مظلومة داخل البلد، وما يلحق ذلك من إضرار بالهوية الواحدة
التراث والهوية: يؤكد الكاتب على أن التراث هو ركيزة أساسية من ركائز الهوية الثقافية، ولطالما كان التراث الثقافي للأمم منبعا للإلهام ، ومصدرا حيويا للإبداع المعاصر ، والتراث هو تراكم خبرة الإنسان في حواره مع الطبيعة ؛ إذ هو الذاكرة والبوابة على العالم باعتبار أن التراث الثقافي يكون مصدرا تربويا، وعلميا وفنيا ذلكم أن تراكم الخبرات يكوِّن الحضارة وفقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة (ص108).
كما يقسم الكتاب التراث إلى : التراث المادي الملموس – والتراث غير الملموس ( الموروث الشعبي) كما يتناول مكونات التراث الثقافي على أنها: التراث الشفوي- التراث المكتوب- التراث المبني- التراث المنقول- المواقع الأثرية القديمة - .
وعند مقارنته بين الغرب والشرق يؤكد الكاتب أن الحاضر بوابة الإنسان الغربي للإطلال على الماضي، وبذلك يفصل بين ما هو ثقافي، وما هو تاريخي؛ أما في الفكر الشرقي فإن التراث الثقافي جزء من الحاضر ، نجد هذا في دول الجنوب بما في ذلك الشعوب العربية التي تؤكد على التواصل المعرفي، والعودة إلى الينابيع كخزان حيٍّ لتجليات الفكر والأدب، والعلم للعصر الذهبي الزائل (ص117)
التراث..هوية متجذِّرة: التراث هوية متجذِّرة في اللاشعور- هكذا يرى الكاتب- إذ تتغذى الهوية القومية للإنسان العربي من التراث، كما تتعلق بشدة بما يختزنه ماضيه من انجازات علمية وفلسفية وأدبية ، فهو ينتمي كليا إلى تراثه ، ويتماهى فيه معنويا دون تحفظ ، بحيث يشعر بان تعلقه به هو امتداد لتعلقه بتصوره للدنيا ، والكون وحتى لما بعد الحياة ، فيتخذ التراث بُعْدا روحيا ونفسيا ممّا يجعله خارج دائرة التفكير، وداخل دائرة التقليد فالمساس بالتراث غير وارد عنده ، وكذلك مساءلته.
الهوية والتاريخ: يؤكد الكاتب بأن الإنسان إذا أراد أن يفهم نفسه وحاضره عليه أن يفهم الماضي ، وذلك حتى يكسب خبرة السنين الطويلة ، والتاريخ صانع ومدعم للهوية فإن كان الإنسان صانعا للتاريخ فمن المؤكد أيضا أنه نتاج لهذا التاريخ نفسه، لأن التاريخ نظام معرفي لازم الوجود الإنساني، وشارك الإنسان في رحلته عبر الزمان، وتأثر بما جرى على الإنسان نفسه من تطورات خلال هذه المرحلة الطويلة ، ليؤكد الكاتب على أن الهوية نتاجٌ لحركية التاريخ ، وهو صانع ومدعم لها ..
الهوية واللغة: ينطلق الكاتب من مقولة ابن خلدون عن اللغة ومكانتها بين الأمم:((إن غلبة اللغة بغلبة أهلها..(ص135)) ليؤكد أن اللغة هي التي صاغت أول هوية لجماعة في تاريخ الإنسان، لأن اللسان الواحد هو الذي جعل من كل فئة من الناس "جماعة " واحدة ذات هوية مستقلة ، واللغة هي سلطة الثقافة وركن الهوية الجماعية ، وما يصيبها من وهن يصيب الجماعة ، ويجعلها تهاجر إلى لغات أخرى ، وغالبا ما تكون لغة المستعمر الذي خطط لاحتلال الألسن، والعقول لضمان النفوذ والتبعية (ص136).
وبعدما يذكرنا الكاتب بان الحفاظ على الهوية هو الحفاظ على التراث يؤكد بان اللغة العربية هي أقوى الدعامات، وباعتبار أن اللغة هي إحدى مكونات الهوية ، فإن اللغة العربية هي من أهم مكونات الحضارة العربية الإسلامية كونها متجذرة تاريخيا، ولم ينقطع استعمالها من الألسن الناطقة بالضاد ، وساعد على استمرار هذا الوجود ذلكم التراث الأدبي العظيم وفي مقدمته القرآن، المعجزة البيانية الخالدة التي كفلت للفصحى طول العمر.
ثم يعرض الكاتب إلى ما قد نُسميه بالغزو اللغوي، على أن الاستعمار في أيامنا هذه يغزو بلغته ، ويعرض لنا الكاتب بعض الآراء لمفكرين عرب كابن منظور، وابن حزم، وابن خلدون على أن عزّة الأمة مرتبط بعزة لغتها، وكلما وهنت اللغة وهنت الأمة، ليخلص الكاتب إلى أن الهزائم قد امتدت إلى لغتنا الجميلة! .
وفي تقريره لواقع اللغة في محيطها العلمي عندنا يشير الكاتب إلى حقيقة مؤسفة ألا وهي إهمال اللغة العربية في البحوث العلمية (ص151) ، ثم يعرض الكاتب إلى إشكالية اللغة، والهوية في الجزائر ويُرجع أسباب ذلك إلى أيام الحركة الوطنية والثورة، والصراع بين الدوائر الفرانكفونية،والدوائر المعربة في دواليب النظام،ثم الابتعاد عن اللغة العربية الفصحى فيما بعد
الخاتمة:
كتاب "مؤانسات ثقافية" للمبدع والمفكر بشير خلف هو أكثر من مؤانسات ، فحتى وإن عكست التسمية الحسّ الأدبي للكاتب، فهي في حقيقتها نقرات فكرية، وثقافية مُوقظة لمخيال المثقف، فارزة لتشابك خيوط الفكر المحلي والعربي، ومصححة لمواقف فكرية وقضايا ثقافية مختلفة.
هي إذن أفكار ومفاهيم خاض فيها الكاتب بكل جرأة وجدية ، نافضا الغبار على العديد من التصورات والرؤى في الغرب الأوربي أو في الشرق العربي ، ليحط الرحال دائما عند الفرد والمجتمع الجزائري ، محللا لثقافته وهويته ببعديهما العربي المتوسطي والإفريقي. مركزا على السلوك التربوي، والشعور الإنساني الراقي في تجلياته الحضارية أملا وطموحا لمعانقة كل ما هو سامٍ بنّاء، وراقٍ تنموي، يأخذ بنا نحو الأفضل من حلم الأجيال نحو التسلق السليم لسلم الحضارة .
وإن كان لابد من تسجيل بعض الملاحظات على هذا الكتاب ، فإننا نسجل جُهْد الكاتب واحترافيته في إتباع المناهج العلمية والدقة في البحث والمساءلة، والتمسك بالمنطق العلمي في عرض الحقائق ومقارباتها؛ بالتعريف والتحليل والاستقصاء، وتقديم الحجة والمثال مع كشْف الحقائق عارية من كل المجاملات حتى وإن كانت صادمة أو محرجة .
كما نسجل له دقة العرض فيما بذله من جهد في التبويب، والترتيب، وحسْن الطرح في التقديم والتأخير،
وعموما فإن لأستاذنا منهجه العلمي المدروس كما له حججه وبراهينه المقنعة إضافة إلى الإحاطة العلمية وسعة الاطلاع، بما فيها الإدراك بالعلائق الفنية في الحياة الثقافية العربية والمحلية الموسومة بالتجاذب والتشابك، وقد تعرض لجانبها الهلامي في العديد من المواضع مما اثري أفكاره العلمية المطروحة خاصة في معرض حديثه عن الثقافة والهوية ..
كتاب مؤانسات ثقافية من المُصنّفات التأملية، والثقافية الهامة للأستاذ بشير خلف، كتاب فكري ثقافي متميز هام في محتواه وأهدافه؛ جاء متزامنا مع الأصوات المنادية بضرورة فتْح الملف الثقافي الجزائري حتى نُرسِّم هويتنا، في الوقت الذي تُصرّ جهات أخرى على طيّه، أو تأجيله إلى آجال أخرى ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.