كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بغداد .. دار السلام والمجد محمد مروان مراد سأل الإمام الشافعي يونس بن عبد الأعلى: هل دخلت بغداد؟ فأجابه: لا فبادره الإمام الشافعي: لم تر الدنيا إذن !! ... كانت الخلافة العربية الإسلامية عام 132ه على موعد مع مرحلة فاصلة في تاريخها ففي تلك السنة تمّ للعباسيين إنهاء الحكم الأموي وإعلان قيام دولتهم وتسلّم أبو العباس السفاح منصب الخلافة في مدينة الهاشمية التي أعدّت لتكون العاصمة الأولى للدولة الجديدة وظلت الهاشمية حاضرة الدولة حتى تقلّد الخليفة العباسي الثاني: أبو جعفر المنصور مقاليد الخلافة عام 145ه. بناء مدينة بغداد اعتزم المنصور إقامة عاصمة جديدة لحكمه فلما همّ باختيار موقعها أخبر أصحابه: أريد موضعاً ترتفق به الرعية ولا تغلو عليها فيه الأسعار ولا تشتد فيه المؤونة فإني أن أقمت في موضع لا يُجلب إليه من البر والبحر غلت الأسعار واشتدت المؤونة وشقّ ذلك على الناس فأشار عليه بعض الحاشية اجعلها على الصراة بين دجلة والفرات فإذا حاربك أحد كان النهران خنادق لمدينتك كما أن (الميرة) تأتيك في دجلة من ديار بكر تارة ومن الهند والصين والبصرة تارة أخرى وتأتيك في الفرات من الرقة والشام كما تجيئك من خراسان وبلاد العجم وأنت يا أمير المؤمنين بين أنهار لا يصل عدوك إليك إلا على قنطرة أو جسر وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد وأنت قريب من البر والبحر والجبل. فتأمل المنصور العبارة التي رسّخت عزمه على بناء المدينة الجديدة لتكون مقراً لخلافته ومعسكراً لجنده ومكاتب لدواوينه فقال: لقد مررت في طريقي بموضع اجتمعت فيه هذه الصفات فأنا راجع إليه وبايت فيه فإن أدركت فيه ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أرغب لي وللناس فأتى موضع قرية قديمة عُرفت باسم بغداد وقرّر بناء عاصمة فيها. بغداد معالم شامخة على ضفة دجلة أحضر أبو جعفر المنصور المهندسين والحرفيين من أهل الصناعة والبناء ومن أهل الفضل والأمانة والفقه والعدل والعلم بالذراع والمساحة وقسمة الأرض ووضعهم في صورة المدينة التي يعتزم إنشاءها فأقروا بناء العاصمة في موقع بغداد القديمة لأسباب عديدة بينها: 1- موقعها الاقتصادي على طرق التجارة الرئيسية القادمة من البحر وعلى امتداد النهر. 2- أرضها الخصبة المناسبة للزراعة بفضل النهرين العظيمين. 3- مناخها الطبيعي الملائم لإقامة القصور الشامخة والحدائق الناضرة... وما لبث المهندسون أن استدعوا ألوف المهرة من العمال والفعلة والصناع من الحفارين والنجارين والحدادين وسواهم فأجرى عليهم الأرزاق ثم بدئ بتنفيذ مخططات البناء التي رسمها خمسة من مشاهير المهندسين بإشراف الحجاج بن أرطأة. كانت البداية عام 145ه حيث تقرر أن تُقام المدينة على شكل دائرة محيطها (16 ألف ذراع) وقطرها (5093 ذراع) بهدف تخفيض كلفة بناء السور لأن محيط المساحة المدورة يقلّ طوله عن محيط مساحة مربعة مساوية لها بنحو (11.37 ). خُطّت المدينة بالرماد أولاً وصُنِعت على تلك الخطوط كرات من القطن وصبّ عليها النفط وأشعِلت لتبرز بشكل واضح ثم بدئ بحفر الأساسات وضرب اللبن وشوي الآجر ووضع أبو جعفر المنصور بنفسه أول لبنة في البناء وهو يردد: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورّثها لمن يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ارتفعت معالم المدينة على ضفة نهر دجلة وهي تمثل حالة من حالات التتابع المدني فهي على مبعدة 90كم من مدينة بابل القديمة وعلى بعد كيلو مترات من طيسفون -المدائن- عاصمة الفرس الأولى. بغداد.. دار السلام عُرفت المدينة الجديدة بعدة أسماء فهي: المدينة المدوّرة ومدينة المنصور والزوراء ودار السلام تفاؤلاً بالسلامة في الحياة والنجاة من الأعداء لكن غلب اسم بغداد على الألسنة وبقي خالداً على مر العصور. وقد قُسمت المدينة إلى أربعة أقسام رئيسية بشوارع عريضة امتدّت لتصل بين كل بابين من أبواب المدينة الأربعة واحتوى كل قسم على عدة شوارع فرعية ودروب ضيقة. وكانت الأقسام تلتقي عند مركز المدينة (الدائرة).. أحيطت المدينة بخندق واسع وأسوار ضخمة فتحت فيها أربعة أبواب متقابلة: الباب الشرقي باب خراسان يقابله غرباً باب الكوفة وفي الجنوب باب البصرة والباب الشمالي هو باب الشام. بغداد من الداخل وكانت في وسط المدينة رحبة مدورة واسعة في وسطها قصر الخليفة الذي بناه بالآجر وسماه قصر الذهب وسمى بابه باب الذهب وأنشأ مسجداً واسعاً ملاصقاً له وكانت مساحة القصر أربعمائة ذراع في أربعمائة ومساحة المسجد مائتين في مائتين وكان في صدر القصر إيوان طوله ثلاثون ذراعاً على سطح الإيوان مجلس مثله وفوق المجلس القبة الخضراء وكان على رأسها تمثال فارس بيده رمح فإذا دار التمثال استقبل بعض الجهات ومد رمحه نحوها. بلغ ارتفاع الإيوان إلى أول عقد القبة عشرين ذراعاً وارتفاع المجلس والقبة الخضراء ستين ذراعاً سقطت تلك القبة سنة 329ه في يوم مطير فيه ريح أما المسجد فقد أنشأه المنصور من اللبن والطين وجعل أروقته أسطوانات من الخشب وكانت كل أسطوانة منها قطعتين معقبتين بالعقب والغراء وحبّات الحديد إلا خمس أسطوانات كانت عند منارة الجامع. بغداد في براثن الهمجية امتدّ الازدهار الحضاري في بغداد إلى ميادين الزراعة والتجارة والعمران.. لقد كانت بغداد بحق جوهرة العالم الإسلامي ومنارة الرُّقي والتقدم وظلت ترفع شعلة الحضارة الإنسانية طوال قرون ثمّ بدأت شمسها تميل إلى الغروب بسبب الأوبئة الفتّاكة التي اجتاحتها والفتن والثورات التي تكرّرت في العهود المتأخرة حيث استبدّ قادة الجيوش بأمور الخلافة فتدهورت مكانة الدولة وتضاءل مركز الخلافة فقُطعت طرق القوافل وكسدت التجارة وانكفأت الزراعة بفعل الفوضى والتسلّط ودب الصراع بين فصائل الجند في العهدين البويهي والسلجوقي. بغداد بين سقوطين .. التتار والأمريكان ورغم أنه في فترة من التاريخ نهضت بغداد من كبوتها في عهد المستضيء عام 575ه إلا أن المصائب تكاثرت على العاصمة وبالذات في عهد المستعصم بالله (640ه) الذي باغتته جحافل الغزاة المغول بقيادة هولاكو الذي أعمل سيف بطشه في بغداد مدينة الحضارة فدمّر كنوزها المعمارية ومراكزها العلمية ومكتباتها النفيسة ولقي خليفة المسلمين المستعصم مصرعه على يد الغازي الهمجي ووقعت بغداد في براثن حصار محكم من جهاتها الأربع: المغول والترك من وسط آسيا الجنود من جورجيا والمهندسون الصينيون المسخرون من الحكام المغول... وكان السقوط المروّع في فبراير سنة 656ه وخيّم الظلام على دار السلام كما لفّ السواد نهر دجلة بعد مجزرة الكتب الثمينة التي رُميت في الماء واختلط الماء بالدم والحبر في لحظة مظلمة وفاجعة من تاريخ العرب في وطنهم الكبير. وتوالت المصائب على بغداد حين عاود (تيمورلنك) غزوها عدة مرات وأباح لجنوده نهب خيراتها وما انتهى ذلك الكابوس حتى وقعت تحت سيطرة الشاه إسماعيل الصفوي في عام 914ه وترددت بغداد بعدها بين حكم الصفويين والأتراك العثمانيين غير مرة قبل أن تغدو ولاية عثمانية بدءاً من عام 1683م. وظلت كذلك حتى الاحتلال الانجليزي عام 1920م وحين تحررت من نير الحكم الأجنبي أصبحت العاصمة مرتعاً للصراعات الداخلية وللظلم والفساد والتمرّد وعدّت بعدما اقتحمتها جيوش الغزاة الأمريكيين عام 2003م أكثر بقاع الدنيا خطورة وأبعدها عن الاستقرار. لكن المدينة الخالدة التي كتبت في سجل الزمن أمجد صفحات التمدّن والحضارة قادرة على النهوض من عثرتها لتجدّد ذلك الإرث العريق الذي أنار في العالم طوال قرون وما تزال شواهده الراقية حاضرة ومتألّقة على مدار الأيام.