بلديتان متجاورتان في إحدى ولايات الجنوب الجزائري.. متشابهتان في تواضع الثروة ومصادر الدخل وطبيعة السكان ومستوياتهم ونسبة الوعي والتعليم فيهما.. إحدى البلديتين تعاني منذ سنوات أزمات متتالية مما أثّر على وتيرة التنمية، بل وصل الأمر إلى تجميد مجلسها وتحويل إدارتها إلى الكاتب العام بعد أن رفع الأعضاء المنتخبون دعاوى قضائية ضد بعضهم البعض، أما البلدية الأخرى فتشهد تصاعدا لخطها البياني على جميع الأصعدة. زرت البلدية المستقرة قبل قرابة خمس سنوات ولاحظت فيها حراكا متوسطا، لكنني عندما زرتها قبل أشهر رأيت العجب العجاب وأجزم أنني لو دخلتها مغمض العينين وفتحتهما هناك لأنكرت أن هذه المدينة هي تلك القرية المتواضعة التي كنا نعرفها منذ عشر سنوات.. أما البلدية الثانية التي تحولت اجتماعات مجالسها إلى تصفية حسابات وتكسير عظام هذا لحساب ذاك؛ فقد انسدّ فيها الوضع تماما وتوقفت مشاريع كثيرة، ولا تكاد تسمع سوى شكاوى المواطنين من الحظ العاثر الذي أوقعتهم فيه كواليس السياسة المحلية. كلام كثير يمكن أن يقال حول البلديات سواء تلك التي نجحت وصارت أنموذجا في الرقي الإداري والعناية بالمحيط وخدمة المواطن، أو تلك التي أدمنت جميع أنماط الفشل والأزمات وعمليات سحب الثقة بسبب ودون سبب، والنتيجة في آخر المطاف هي مصائب التخلف التي تقع على رأس ذلك المواطن البسيط الذي ينتظر طريقا لسيارته أو مدرسة لأولاده أو مشروعا يحرك دواليب الاقتصاد المحلي ليعم الخير الجميع. العدّ التنازلي للانتخابات البلدية القادمة قد بدأ، والانتهازيون والنفعيون من جهتهم شرعوا في عمليات عدّ الشهور الفاصلة عن ذلك الموعد.. يعدّون ويتلمظون ويلعقون شفاههم من الآن وهم يتخيلون حجم المصالح الشخصية التي سيحققونها عبر الوصول بأنفسهم أو المساهمة في إيصال من يخدمهم ويرعى ملفاتهم ومشاريعهم المشبوهة ويُرضي بالتالي نفوسهم الأنانية التي لا تجد غضاضة في القفز فوق المواطن، بل وطحنه وسحقه إن استطاعت إلى ذلك سبيلا. كلنا تفاؤل أن تكون العهدة القادمة للمجالس البلدية أفضل حالا وأبعد عن المشاكل والصراعات التي تعطل مسيرة التنمية المحلية وتحشر مناطق كثيرة في زوايا التخلف سنوات أخرى.. نتفاؤل في الوصول إلى عدد قياسي من البلديات الحقيقية التي تحمل همّ المواطن وتعمل على تغيير واقع حياته بشكل ملموس بعيدا عن الأرقام والتصريحات والمناسبات الانتخابية. والأمل معقود على مشروع التعديلات الجديدة في قانون البلدية.. ذلك المشروع الذي يتطلع من خلاله وزير الداخلية دحو ولد قابلية إلى علاج )الاختلالات التي ظهرت عند الممارسة في إطارها الدستوري والسياسي والقانوني والاجتماعي حيث يضع المواطن في لبّ اهتماماته من خلال إشراكه في تسيير شؤون بلديته تكريسا لمبدأ الديمقراطية التشاركية(.. تلك التعديلات التي ترمي إلى )ضمان استقرار المجالس البلدية من خلال وضع آليات تحدّ من ظاهرة الانسداد وسحب الثقة من رئيس المجلس الشعبي البلدي(.. تلك التعديلات التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار والحدّ من اللجوء المفرط وربما العشوائي لإجراءات سحب الثقة عبر القيد الجديد الذي يضمن )عدم جواز تقديم سحب الثقة خلال السنة الأولى من العهدة ولا خلال السنة الأخيرة منها، كما لا يمكن تقديم أي طلب تم رفضه قبل انقضاء سنة كاملة(.. ما أحوجنا إلى ضوابط جامعة مانعة تخدم مصلحة البلدية وتسدّ الطريق في وجه أولئك الذين يتفننون في تعكير الأجواء لتصفو لهم الأفراح والليالي الملاح مع مصالحهم ومشاريعهم على حساب المصلحة العامة. التعديلات الجديدة ستعزز من صلاحيات رؤساء المجالس المنتخبة، وهو أمر مطلوب بإلحاح لأن المنتخب يمثل إرادة الشعب، والشعب هو عماد العملية الديمقراطية من أساسها سواء المحلية أو الوطنية.. فنعم لتعزيز تلك الصلاحيات، وما أحسن أن يكون ممثل الشعب قويا قادرا على إنفاذ تطلعات الذين انتخبوه، ومؤهلا للوقوف في وجه العراقيل البيروقراطية، وشجاعا في وجه مرضى التطبيق الجامد للقوانين وأمثالهم من الذين ينامون ويستيقظون وهم على ذلك البرود والهدوء السلبي تجاه أموال عامة تتعرض للهدر على شاكلة مشاريع جاهزة لكنها لم تسلّم للمصالح المعنية، وسكنات شاغرة سنين عددا دون أن يستفيد منها أحد، وهلمّ جرّا.. جميل أن يتمتع رئيس المجلس البلدي المنتخب بصلاحيات أكبر، لكن الأجمل منه هو ذلك العمل والجهد الدؤوب الذي يرسّخ الكفاءة والنزاهة في العملية الانتخابية والإدارية.. فدون ترسيخ معيار نظافة اليد وطهارة الضمير سيصل الانتهازيون إلى كثير من المجالس، وعندها سيفعلون الأفاعيل لأن الصلاحيات في أيديهم، وسحب الثقة عنهم غير وارد إلا في أضيق الحالات حسب مشروع التعديلات الجديدة. ومسألة النزاهة والنظافة شأن المواطن الناخب قبل الجهات المسؤولة، لأن الأخيرة قد تعجز عن متابعة كل صغيرة وكبيرة، ولأن القضاء على وسائل التحايل والتلاعب الشيطانية ليس متاحا في جميع الحالات، وهكذا يتسرب غير المرغوب فيهم إلى القوائم ويتربعون بعدها على الكراسي.. أما المواطن ففي وسعه أن يمنع كل مشبوه من الوصول إلى المجالس وما عليه إلا المسارعة إلى سلاح الوعي الصحيح وروح المبادرة والشجاعة التي تجعله يقف بحضوره ودعايته وصوته مع القوائم النظيفة والشخصيات المعروفة بالكفاءة والنزاهة وطهارة اليد. والحقيقة أن المسؤولية عامة وينبغي على النخبة الواعية أن تسابق الزمن وتبدأ التحضير للانتخابات البلدية القادمة من الآن عبر بعث الأمل في النفوس وتشجيع المواطنين على المشاركة الفاعلة في العملية الانتخابية والعمل على محو تلك الأفكار البالية التي يروجها المشبوهون ومفادها أن السياسة صعبة ولا تستطيعها الكفاءات النظيفة والكوادر الشابة.. على النخبة الواعية أن تقلب الطاولة وتصيح في وجه الجميع أن المستقبل للحكم الراشد من خلال الشباب المتعلم النظيف، والبداية من البلديات.