يقول ابن عطاء الله السكندري:”حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال. وحسن الأحوال من نتائج التحقق في مقامات الإنزال”. المقصود بالأعمال القربات والطاعات الظاهرة التي يؤديها المسلم ببدنه، كالصلاة والصوم والحج، والصدقات وأعمال الدعوة إلى الله. والمراد بالأحوال التوجهات القلبية إلى الله عز وجل، من حب وتعظيم وخوف ومهابة.. والمراد بمقامات الإنزال، الرتب التي يتدرج فيها العبد، إذ يعزم على السير إلى الله، والتخلص من آفاتها النفسية التي تصدّه عن ذلك. معنى هذه الحكمة إذن أن القربات والطاعات الظاهرة التي يؤديها المسلم إنما تتحقق فيها صفة الحسن والصلاح، بحيث تكون مقبولة عند الله عز وجل بتوفر الإخلاص له في أدائها، وصفائها من شوائب العجب والرياء والغفلة عن الله تعالى. غير أن هذه الصفة لا تتوفر في الأعمال إلا بنقاء الأحوال، أي أن يكون القلب خاليا عن التعلق بالأغيار.. ولكن كيف السبيل إلى أن يتطهر القلب من التعلق بالأغيار، حتى يتكوّن له من ذلك حسن الحال، الذي به تحسن وتصلح الأعمال؟ سبيل ذلك أن يأخذ المسلم نفسه متدرجاً بالمقامات أو الرتب التي تنزله أخيراً منزلة الأبرار الذين حسنت أحوالهم، فصفت وصلحت أعمالهم. وسأضعك أخي القارئ من هذه المقامات أو الرتب أمام الظواهر السطحية التي تتناسب مع حالي وحالك، إذ لسنا من هذه المقامات إلا أمام شاطئ رقراق طويل لابد من اجتيازه بسلامة وفهم،قبل بلوغ عمقه المتلاطم. المقام الأول الذي لابدّ منه لاكتساب الحال القلبية السليمة مع الله عز وجل،هو التوبة. ولا يقولن قائل:أنني لم أرتكب ما يقتضي التوبة من الموبقات أو الآثام، فليس في الناس من لم يقصر في جنب الله عز وجل واستطاع أن يوفيه كامل حق الربوبية عليه،حتى الرسل والأنبياء - وقد ثبتت لهم صفة العصمة - لم يتسنّ لأي منهم أن يؤديه هذ الحق، ولا تستطيع القوى الإنسانية أن توفيه حقها، بالإضافة إلى أن الناس كلهم - حاشا الرسل والأنبياء - كانوا ولايزالون خطائين وخير الخطائين التوابون.. المقام الثاني من مقامات الإنزال التي يتحدث عنها ابن عطاء الله، مقام الصبر وهو من مستلزمات التوبة، ولا وجود ولا معنى له إلا على أعقابها. إذ أن الإنسان يتبع نفسه وهواه قبل التوبة بشكل كلي أو جزئي، ومن ثم فلا حاجة له إلى الصبر، ولكن إن تاب توبة صادقة و عزم على الابتعاد عن الآثام والموبقات، فقد بدأت رحلته إلى الله على طريق الصبر، وهو لون عزيز وغال من الجهاد يمتاز بالشدة في مجال التحمل، وبالثمرات العالية في نهاية المسار.. وهو صبر عن الاستجابة للأهواء الجامحة، وصبر على أداء الواجبات والنهوض بالقربات،وصبر على الغيبوبة عن كل ما سوى الله، بأن لا يقيم بعد الله وزناً لمدح المادحين ولا لقدح القادحين، أو لدنيا ازدهرت أمامه بإقبالها أو اكتأبت أمامه بإدبارها. ومعنى الصبر في هذا الطريق أن يأخذ السالك نفسه شيئا فشيئا بأداء هذه المهام، مستعينا في ذلك بدوام الالتجاء إلى الله وطلب العون منه، موقنا أن لا حول له ولا قوة في تحمل شيء من هذا الجهد إلا بالله عز وجل، واضعا نصب عينيه قوله عز وجل: {واصبر وما صبرك إلا بالله}. المقام الثالث في مدارج السالكين على هذا الطريق، مقام الرضا، وهو من أهم ثمرات الصبر ونتائجه، إذا ثابر عليه المؤمن وصبر.. والسبيل إلى ذلك أن يعلم أنه ينال الأجر الذي ادخره الله للصابرين، وهو أجر عظيم عبر البيان الإلهي وعظمته بقوله:{إنما يُوفى الصّابرون أجرهم بغير حساب}. وهو من أهم أسباب حب الله للعبد،كيف لا وهو القائل:{.. فما وَهَنُوا لِما أصابهم في سبيل اللهٍ وما ضّعُفوا وما اسْتكانوا واللَّهُ يُحِبُّ الصّابرين} فإذا أحب الله عبده، توهج من ذلك قلب العبد بالحب له عز وجل، كما قال سبحانه{.. يحبهم ويحبونه}، فإذا هيمن حب الرب عز و جل على قلب العبد حلّ الرضا فيه بكل ما يأتيه من قبل الله عز وجل محلّ الصبر على الضيق والضجر من المصائب والنوائب التي تنتابه فيغيب الصبر على البلاء ويحلّ محله الرضا بالقضاء. فالمحب ينسى الآلام وقد يتلذذ بها، كما أن الرضا ثقة بما يفعل الله عز وجل فينا فهو أعلم بما يصلح لكل واحد منا. إذن فصلاحية الأعمال تتوقف على حسن الأحوال، ويتلخص حسن الأحوال في فراغ القلب من الشواغل وعدم تعلقه بالأغيار، ليصفو له التوجه إلى الله حباً ومهابة وتعظيماً، وحسن الأحوال رهن بالتحقق، أي التدرج في مقامات الإنزال. ولكن كيف السبيل إلى ذلك كله؟.. كيف السبيل إلى التدرج في هذه المنازل حتى يصل إلى هذا الشأو؟ لا سبيل إلى ذلك إلاّ الإكثار من ذكر الله.. فهو وحده عدة السالكين، وبمصباحه يستنير الطريق، وبأسراره تزول العوائق وتردم الأخاديد وتتحطم التضاريس. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)