كان الروائي إرنست همنغواي، صاحب جائزة نوبل، يكنّ احتراما استثنائيا لمواطنه سكوت فيتزجيرالد لأنه تعلم منه فنّ الرواية وبعض ما تعلق بالفلسفة وعلم الجمال والحياة، وظل مدينا له في تجربته إلى غاية انتحاره بطريقة غامضة رغم شهرته وقدرته على تجاوز معلّمه. كما أنّ كثيرا من التلاميذ ظلوا ممتنين لأساتذتهم عبر التاريخ، في الفلسفة والنقد والفقه والإبداع والفيزياء والرياضيات وعلم الفلك، والتاريخ مليء بهذه العينات، بداية من الدرس الفلسفي اليوناني، مرورا بالقطب والمريد في التجربة الصوفية والممارسات البوذية، وفي الرسم والغناء والمسرح والشعر الذي لا يتنكر للتأثيرات والمرجعيات التي أسس عليها ليكتسب معنى. ولعلّ المقولة الشهيرة التي تواترت بحدة في التداول الروسي" كلنا خرجنا من تحت معطف غوغول" تؤكد هذا الجانب الأخلاقي الذي يعترف بما قدمه السابقون، احتراما لجهدهم. الشيء ذاته ينسحب على التجارب العالمية برمتها.لا أقصد الامتنان بمفهومه التبسيطي، أو النمطي المؤسس على الحفظ والذوبان في النموذج، إنما الاعتراف بالسابقين الذين كان لهم فضل ما، سابق على أفضالنا، ثم سيحقّ لنا، بعد ذلك، الحديث عن التجاوز والتجريب و«قتل الأب"، وغير ذلك من المصطلحات التي عادة ما تأتي فضفاضة، وليست ذات معنى يستند على وعي ومعرفة وأخلاق. العالم المتمدن يبني على الحلقية التي تعدّ حتمية، ودون هذه البنية لا يمكننا الحديث عن تطور فعلي. كما يتعذر الحديث عن القطيعة دون تمثل. أمّا إحدى مشكلاتنا فتكمن في البناء على المحو الكلّي للمنجز السابق، ما يؤدي إلى جعل التجارب بنيات معزولة من حيث إنّ اللاحق لا يتمثل السابق ولا يكمله، ولذلك تأتي "المشاريع" مجزأة ومبتورة وعدوانية. البناء على البناء من الذوق وروح التمدن، وأمّا نحن فنبني على الكنود والتخريب. تقاليدنا الأدبية لا تختلف عن التقاليد السياسية المستبدة التي تعتبر نفسها مبتدأ وخبرا. ما يسهم، بالضرورة، في انفصال مستمرّ لا يخدم التواصل، كما يقضي، بفظاظة، على كل الحلقات التي تسهم في تشكيل الإبداع وترقيته. يجب القضاء على مالك حداد ومحمد ديب والطاهر وطار ومولود معمري لنفرض سلعتنا على القارئ. هذا هو منطقنا الغارق في العنف والبداوة. المعرفة الفعلية تستدعي مراعاة السياقات والتحولات. لا يمكن أن نستسيغ أدبا من هذا النوع المعتدّ بنفسه، أو ذاك الذي ينصب نفسه مرجعا، كما في حالتنا التي امتلأت بالنماذج الإقصائية، في الوقت الذي تعمل على خرق النموذج الذي تراه عائقا. أي أنّ جزءا من الإبداع، إبداعنا نحن، أصبح يقوم مقام أصنام جديدة تشكل خطرا على الكتابة. لقد قتل الإبداع الجديد هذا الأب لينصب نفسه إمبراطورا كلي الحضور والمعرفة، والأمثلة كثيرة عن هذا الوحش الكاسح الذي يتبوأ الساحة الأدبية في السنين الأخيرة. هناك حالة متقدمة من تضخم الأنا، وبشكل يستدعي تدخل الدراسات النفسانية لفهم الوضع الراهن. ليس من باب الحكمة أن تأتي التجارب الصغيرة لتنفي الآخرين معتقدة أنها مراجع مؤهلة للحلول محلّ الاجتهادات السابقة قاطبة، كما يحصل حاليا، إن نحن تابعنا بعض التصريحات الصحفية، أو كثيرا مما ينشر على صفحات شبكة التواصل الاجتماعي من مواقف مثيرة. ليس لنا اختزال النجاح في ما نكتبه نحن، بنوع من التقديس المرضي لكتاباتنا، معتقدين بأننا وصلنا إلى مقام لم يصل إليه غيرنا. لقد قال هنري ميللر عندما بلغ الثانية والسبعين: الآن بدأت أتعلم الكتابة. قال ذلك بعد روايات أحدثت تحوّلا جذريا في السرد الأوربي والأمريكي. لكنه لم يخلق أسطورته بالتصريحات الواهمة. النقد العارف هو وحده من منحه تلك الهالة التي لم يتخذها ذريعة لتحقيق شهرة مبتذلة تقف وراءها العلاقات والأموال والسياقات والجماعات الضاغطة. لقد أصبح واقعنا شبكة من العقد، ولم نستطع، بعد عقود من الكتابة، أن نخلق نقاشا أكاديميا يربط الإبداع بالنقد. وأمّا السبب فيكمن في المركزة التي لا تتكئ على ممارسة تجسدها الكتابة كجهد نوعي. هناك، باختصار، اعتداء على الأخلاق السردية والشعرية ببعض الممارسات التي لا صلة لها بهذه القدرة الاستثنائية على التميز، دون الاعتداء على الآخرين أو طمسهم. كان علماء اللسانيات يقولون: المعنى يوجد في الاختلاف، وحيث لا يوجد اختلاف لا يوجد معنى. لذا، من المهمّ السعي لتقوية التباين الدال على الخصوصية، بيد أنّ للتباين حدودا وزادا معرفيا، وأمّا الاختلاف الذي لا أثاث له فلا يمكنه ترقية الكتابة، إن لم يصبح مرضا من إنتاج وهم الأنا. لا يمكن أن نصنع هالتنا معزولين عن هذا التراكم. والواقع أنّ كلا منا يمثل بنية صغرى في بنية كبرى، أو بنية تحتية تعدّ امتدادا للبنيات السابقة، ومقدمة لبنيات لاحقة قد تبني على منجزنا، إن كان ذا قيمة اعتبارية. لكنها قد تتجاوز تفاصيل غير ضرورية لسياقها، ومع ذلك لا يمكنها طمس الحلقات من حيث إنها واقع عينيّ. من المهمّ، قبل الحديث عن قتل الأب، وبهذه الوحشية الكبيرة، أن نكتب جيدا. أمّا احترام الآخر فأمر جوهري لأنه قائم في أشكالنا التعبيرية، في الذاكرة والعلامة والسلسلة الأدبية. إنه لمن المؤسف الحديث عن الأدب انطلاقا من النفي الجذري لهذه الحلقات. نحن مجرد نتيجة ذات علاقة سببية ما بجهود سابقة، وبمتخيل نحاول ترميمه تأسيسا على عقل تداولي، لا غير. لكننا لسنا أربابا أو أنبياء.