في حوار مطوّل مع المخرج البريطاني "مايك لي" يخبر الرجل المحرّرة "إيمي رافاييل":"لا أعرف ما هي الكيمياء التي تحدث بداخلك حين تشاهدين فيلماً –أو مسرحية-وما الذي يحوله إلى سحر خاص بالنسبة لك. وبالنسبة لنا جميعاً، الشيء هو على أحد المستويات نفسه: كون الفيلم –أو المسرح- يروي لنا قصة وانهماكنا في ذلك، وبالنسبة إلي – وعلي أن أقول إن هذا صحيح بالنسبة لجميع أنواع الفن – يرتبط الأمر بشعور إرادة القيام به، وخاصة الفيلم والمسرح". وقد لا يكون لحديث "لي" هذا أية خصوصية على الرغم من قيمة أعماله واتساعها وشهرتها، إنّ مثل هذه الأحاديث عاطفية وخاصة جدا بحيث أنها يمكن أن تنطبق على كل فنان "حقيقي" يؤمن بالفن، وبالمسرح خاصة، وجدواه في تشكيل عوالم إبداعية لها قدرتها في تنبيه الناس وكسب متابعتهم. وهي ذاتها العوالم التي يمكن أن يجدها المتلقي عندما يتابع ما يقدم من مسرح في الجنوب الجزائري. إنّ بعضها يصنع جماليات راقية، ولكنها جماليات يمكن أن نجدها في غيرها ومن الصعب الحديث عن خصوصية للمسرح في مدن الجنوب يمكن أن تبتعد بها المسرحيات عن مثيلاتها المقدمة في الشمال، إنّ التقسيم انطلاقا من الجغرافيا هنا لا يفيد كثيرا، وككل المدن التي تبتعد عن العاصمة في أغلب البلاد يجد الفنان المسرحي نفسه يقدم أعمالا بعضها على قدر كبير من الأهمية لكنه لا يحوز على الاهتمام المطلوب. وعدا الأعمال التي كان لها فرصة التجوال في مسارح الشمال والالتقاء بجمهور هذه المدن وعدا بعض الزيارات التي قادتني بشكل شخصي إلى مجموعة كبيرة من مدن الجنوب التي أحرص في كل زيارة على مشاهدة ما يتوفر من عروض وقتها ولقد كان التلقي في بعضها رائعا وكانت بعض المواقف في بعضها تجعلنا ننفجر بالضحك، وتجعل الجو مليئا بالإثارة. بينما في الوقت ذاته مرّت الكثير من العروض من أمامنا جعلت السخطَ باديا فينا بحيث كنا نلوم أنفسنا على مشاهدة مثل هذه الأعمال. وبعيدا عن تسمية بعض العروض ومخرجيها الواجبة في مثل هذه الحالات فإننا نخلص من هذا بأنه لا يمكن أن نتحدث عن مشكلات تعترض فناني هذه المنطقة دون مواطنيهم من المدن في الشمال، فنقص التكوين وغياب الدعم للفرق، وصعوبة توزيع العمل وانتشاره في البلد القارة يكاد يكون هو ذاته عند الجميع. لذلك يبقى الاعتماد على العلاقات الخاصة والجهود الفردية هو ما يحكم فرص مشاهدة مثل هذه الأعمال. لعلّ الثورة الميديائية ساهمت بقدر وافر في توصيل معلومات وأخبار المسرحيين في الصحراء الجزائرية للبلاد جميعا وللخارج أيضا في بعض الحالات لكنها مع ذلك لم تستطع توصيل الأعمال ذاتها لا الأخبار وحسب. قد تكون الأيام التي نظمها المسرح الوطني حول مسرح الجنوب كما سميت فرصة جيدة من فرص أخرى يجب أن يتم توفيرها للتعرف على صنّاع المشهد المسرحي في الولايات الجنوبية، وقد تكون الدعوة لإقامة مهرجانات في أكثر من ولاية شمالية للانفتاح على هذه الأعمال أيضا دور إيجابي في تقريب الظاهرة المسرحية إلى أبناء الجزائر الواحدة. ولكن يبقى التأكيد على أنّ المسرح، وفي أي مكان في البلاد مرهون بما يقدمه صناع العمل في حد ذاتهم ومدى وعيهم وإدراكهم بالتحدي الذي يواجهونه عندما يقدمون عملا مسرحيا فاندماج الكلمة والصمت والمرئي والسمعي، والمكاني و الزماني و الملهاوي والمأساوي والمحدد والمجرد والسامي والباعث على السخرية كما يخبر "مايك لي" الذي افتتحت به حديثي أو كما يخبر " توم ستوبارد " الذي اختير مؤخرا كأعظم مؤلف مسرحي على قيد الحياة: "أكتب المسرحيات لأن كتابة الحوار هي الطريقة المحترمة الوحيدة التي أناقض فيها نفسي"أو بإيجاز: الطريقة المحترمة ، والتنوع الشديد في الأدوات الفنية التي تنبني على معرفة عميقة، عالمة لا حدسية وحسب هي بالضبط ما يمكّن فنان المسرح من الجنوب أو من الشمال على حد سواء أن تجعله يقدم بناء مسرحيا يستحق أن يشاهد ويبقى في الذاكرة بعيدا عما يشيع من شعور ب"المظلومية" الجغرافية، فيما يتعلق بالمسافة بين مدن الصحراء باعتبارها هامشا والشمال، والعاصمة تحديدا باعتبارها مركزا.