وإن الحرب على الإرهاب وما أعقبها من تفكك في بنية الدولة المنحدرة من منتصف القرن الماضي، وهي في بنياتها تلك نتاج الأيديولوجيات الوطنية أو القومية التحريرية التي لم تعد تستطيع الإجابة على جميع أسئلة العمل السياسي ومتطلباته في هذا القرن، ما أدى إلى بروز ظاهرة ثقافة الاستبداد، التي ولدت الغضب، والرفض، ثم الاحتجاجات والانتفاضات ثم الثورات التي تمثلت في ما سمي بالربيع العربي في كل من : تونس وليبيا، ومصر و اليمن وسوريا والسودان.. توسّعت مساحة ثقافة ما أطلق عليه الإسلاموفوبيا، ونتجت بالمقابل ونتيجة لذلك تنويعات في الدين السياسي. ولقد زادت العمليات الإرهابية في أوربا، وفي فرنسا خاصة - منذ حادثة الهجوم المسلح على مجلة شارلي إيبدو واعتداءات 13 نوفمبر 2016، وأخيرًا العملية الإرهابية التي عاشتها مدينة نيس في 14 يوليو 2016 - زادت من حدة هذا الوضع، وتم تعميق وتوسيع ثقافة الإسلاموفوبيا بشكل واضح، حتى تجاوزت رقعة الخطاب السياسي لليمين المتطرف وتخطته فأضحت مادة في الثقافة والفن والمسرح والإعلام . تعمقت الهوة بين الجنوبي والغرب واستيقظ شعور الريبة من حالة كمونه الطويلة إذ أنه شعور ورثه الفرد في بلدان الجنوب من أيام الاستعمار واستقر في أعماقه ، ويتميز بخصوصيات بعضها يجد منبته في المجال السياسي، وبعضها في منحاه الديني، والآخر في اللغوي- الثقافي، وبعضه في اضطراب الهوية. ويحاول حاملو الذاكرة الاستعمارية أصحاب الدعوة إلى فوبيا الآخر، أن ينقلوا الماضي بحيثياته وحمولته وإرثه الثقيلين إلى الحاضر، وذلك باستعادة الذاكرة الاستعمارية، لا لنقدها وإدانتها ثم الذهاب بها نحو البحث عن علاقة جديدة صحية مع هذا الآخر دون إلغاء الذاكرة ، مؤسسة على الاحترام المتبادل والاستقلال والشراكة، وهذا واجب الذاكرة أيضا ، لا بل العكس، من ذلك فإنها تُستدعى لتغليب ثقافة التوجس والحذر من هذا الآخر، العدو في الماضي، والنظر إليه على أنه عدو الأبد. الأمر الذي أحدث ردة فعل لدى المستعمَر «سابقًا» ليقف من جهته موقف الريبة من الغرب، ويعده غربًا واحدًا متجانسًا لا يزال يتربص به لاحتلاله من جديد. و ليس غريبا أن تتعقد الأمور أكثر ويتعمق العداء حين يقف من جهة أخرى حاملو فيروس فوبيا الآخر ويتشبثون بمقولات أيديولوجية جاهزة، مؤداها أن الغرب عامة و(بالجمع) يقف ضد العروبة، ويحاربها وأنه لا يبحث سوى عن التخلص منها ويعمل على القضاء عليها ومحوها. ونعلم كيف ظهر مصطلح «حزب فرنسا» في الجزائر خاصة، ووضع للترميز إلى حالة التربص بالعروبة ومحاربتها من الداخل، من خلال فيلق المثقفين المفرنسين. ولعل من أهداف هذا كله، بث التفرقة والتجزئة والبلبلة و قطع أوصال الحوار بين المثقفين الجزائريين أنفسهم على أساس اللغة، وبتر كل ما يمكن أن يجمع الضفة الجنوبية، المتميزة بثرائها اللغوي والثقافي بالضفة الشمالية، وقطع كل حبل وصال وأمل في أية إمكانية للتعامل من خلال الثقافة واللغة المشتركة التي يمكنها أن تتحول إلى عامل لتطوير علاقة شراكة لبناء مستقبل مؤسس على ما هو إيجابي، من دون نسيان ما هو سلبي. يبدو أن الروائي الجزائري كاتب ياسين تفطن مبكرًا إلى هذه العلاقة المرتبكة حين قال عن اللغة الفرنسية إنها «غنيمة حرب». ثم هناك عنصر آخر يضاف لغرض إذكاء نار العداوة بين الجنوب والشمال، وهو حين يوظف دعاة فوبيا الآخر القضية الفلسطينية التي لا أحد يشكك في عدالتها، وذلك فقط لتأجيج ثقافة الكراهية ونشرها عن طريق تعميم الأحكام، وعدّ موقف الغرب موحدًا تجاه هذه القضية التي تعد في جوهرها قضية تصفية استعمار، وحق شعب في استعادة أرضه واستقلاله. وجب التنويه إلى أنه كما كان للثورة الجزائرية أصدقاء من الأوروبيين ومن بين الفرنسيين أنفسهم، ومنهم من ضحّى بحياته من أجلها إيمانًا منه بعدالتها، فإن للقضية الفلسطينية رأس مال مهمًّا من أصدقائها في أوربا وأميركا، يدافعون عنها بشتى السبل، ولعل الاستثمار فيه يعد ورقة رابحة للدفاع عن هذه القضية العادلة ولقد حضرت شخصيا لقاءات وتجمعات كثيرة في أوروبا حضرها إلى جانب شخصيات عربية شخصيات أوروبية تدافع وبقوة عن القضية الفلسطينية سأتناول الحديث عن ذلك بتفصيل في المستقبل . هذه بعض من مداخل قراءة الزلزال الذي يضرب الإنسان منذ بداية العشرية الأولى من هذه الألفية، حاولت اختصار عناصره الأساسية والأهم التي تجعل من زمننا صعبا وعنيفا وضبابي الأفق وحيث به يسود الخوف ويتلاشى السلام وتظهر بوادر حروب ثقافية وقيمية جديدة.