ما أشجع المعارض وهو يقول كلمة حق عند قبر سلطان جائر، و ما أبسل الثوري و هو يركل جثة الظالم و في يده مسدس لا يحسن حتى استخدامه و ما أفحل الموظف و هو يكسر شفتيه شماتة في قالب ابتسامة بعد أن شاهد مسؤوله قابعا في السجن بتهمة الرشوة التي كشف فصولها المواطن البسيط الضحية ، و يا له من مغوار ذلك العامل و هو يندد بظلم المدير بأعلى صوت بعد أن طار هذا الأخير عن عرشه بمحنة إقالة أو منحة تقاعد ، و يا له من فارس لا يقبل الخضوع ذاك التابع الذي رفض مصافحة المتبوع المخلوع بعد أن قبل يديه و رجليه لأعوام و أعوام ....هؤلاء هم البواسل المغاوير الأشاوس ، راكبو أمواج الشرف و الكرامة بعد سنين من الغطس في مستنقعات الذل و المهانة ، إنها ثقافة شحذ السكاكين لحظة سقوط الثور ، و تمرين العمود الفقري لاسترجاع استقامته بعد أن تعودت فقراته على الانحناء ، و اللعب بحرص في الوقت البدل الضائع لتسجيل الهدف الذهبي الذي لن يلمع مادام حامل المعدن مزيفا ففي عنق الحسناء فقط و فقط يستحسن العقد. إن ظاهرة الضمير الذي تبعث فيه الحياة بعد أن يستشري الذل في الجسد الملقى على قارعة الانبطاح أضحت من الأعراف و العادات التي تضبط ديناميكية المجتمع في شتى مؤسساته و بمختلف مستوياتها فبمجرد أن يصيح المنادي ب "مات الملك" يرد الصدى ب "عاش الملك" و تتغير أوجه و وجهات قصائد الإطراء في لحظة منسية و يمنح الخلود بالذم أو المدح للقديم حسب هوى الجديد فإن كان من طينته يرفع شعار الاستمرارية و تواصل الأجيال و إن كان على غير مذهبه ترفرف عاليا راية القطيعة و الانفصال و تشرئب أعناق المتلونين المتغيرين المائلين مع رياح التغيير ، فخدم و عبيد الأمس هم ثوار و أحرار اليوم في ازدراء و احتقار فاضح للذاكرة و كأن الجميع مصاب "بالزهايمر" هذا المرض الذي لا تكف عدواه عن الانتشار . بؤساء و تعساء هم، معلقون على جسور انتقالات و تحويلات المسؤولين ، يسكبون الابتسامات من وجوههم فقط للواقفين ، هم مصنع منتج للتملق و التزلف و المداهنة ، عهدهم الوحيد أن لا يدوم لهم عهد ، هم رواد صناعة النفاق و النصب النفسي و اللعب بالمصطلحات و الويل لمن يقع في شراكهم فقد جبلت النفس البشرية على حب المدح و الاطراء و الميل للتعظيم و التبجيل و النفخ في "الأنا " و هذه أطباقهم المفضلة التي يجيدون طبخها فإن أوقف المسؤول بسكتة قلمية أو هاتفية تشحذ السكاكين من جديد. لكل زمن حال و لكل حال رجال و الشجاعة موقف نبيل صارخ نتحدى فيه العواقب ،لا شماتة يؤجل نفثها و لا كراهية تؤخر إذاعتها حسب الأحوال ،و جبناء الأمس لا يصلحون لتمثيل دور شجعان اليوم لأن البطولة لا تمارس بأثر رجعي و مياه نهر الحياة تسير في طريقها و لا تعود أبدا و حين تسير تأتي خلفها مياه أخرى تتغير و تتبدل المياه فيصير النهر نهرا آخر غير الذي سبحت فيه من قبل و لهذا قيل "إنك لا تنزل النهر مرتين " .