اليمن السعيد: من البردوني إلى بلقيس إلى امرئ القيس إلى.. وأنا أضع قدمي أول مرة فوق تراب صنعاء في اليمن "السعيد"، بدعوة من وزارة الثقافة والسياحة، لم أدرِ لماذا تذكرتُ، فجأة، وجه صديقي الشاعر الكبير عبد الله البردوني.. يقولون إنه أعمى، أو كفيف، وللمراوغة يقال إنه ضرير، وللمبالغة في النفاق اللغوي يقال إنه بصير، لكن الحقيقة التي لا يعرفها عنه أحد، هي أنه قادر على أن يبصر الكلمات بألوانٍ، وأن يشاهد الأصوات متلألئةً كأقواس قزح. عرفتُه في دمشق، كانت حنّاءُ العُرس بنقوشها الحمراء ما تزال عالقة في كفيّ، لم تمنعْني رسومُها الجميلةُ من فتْل وطبخ كسكسي جزائري عظيم. استضفناه، أمِين وأنا، في بيتنا بوسط دمشق ونحن طلبة، عدنا للتوّ من وهران ونحن عروسين جديدين . امتلأتْ سقيفتُنا المفتوحةُ على السماء ذلك المساء بالمثقفين والشعراء والأدباء والطلبة المقيمين بدمشق، من يمنيين وسوريين ولبنانيين وجزائريين وآخرين..مازلت أسمع أصواتهم تتقاطع في النقاش الفكري والأدبي، وتلتقي في قراءات القصائد، وما زلت أستمع إلى صمتنا و" إصغائنا" الصوفي جميعا لهذا الشاعر اليمني الكبير القادم من زمن آخر، وكأنه خارج للتو من كتاب للجاحظ ، مبتسما وناظرا إلى السماء يتلو أشعاره .. وما زلت أحتفظ في مكتبتي بوهران بكاسيطة مسجلة بصوته تخلد تلك السهرة . مرت سنوات بعدُ لم أر خلالها الشاعر اليمني الكبير. كان يشاع بأنه مريض ويشاع أيضا بأنه توفي ..لكنني رأيته بأم عيني وأنا أدخل القاعة الغاصة بالأدباء والفنانين بعد وصولي من الجزائر ضيفة في مهرجان جرش، بمدينة عمان بالأردن. كنتُ لحظتها أتحدث إلى الشاعرة زوليخة أبو ريشة. سمِعَني ..رأيتُه من على بعد طاولتين يدفع كرسيه إلى الوراء بتوتر ظاهر ويندفع نحوي، تتهادى حوله ملابسُه الفضفاضة، ويتبعه مرافقُهُ على مرأى ودهشة من الجلساء وهو يردد : - إنها ربيعة .. إنها ربيعة .. ! الشاعر العظيم الأعمى الكفيف البصير"رأى"صوتي..رآني!. ورأيته خلال أمسيتي الشعرية، يرى قصائدي، يجلس في الصف الأول من قاعة المركز الثقافي الملكي. أتجول الآن في مدينة صنعاء. ولا أسمع سوى صوت الشيخ عبد الله البردوني شاعر اليمن الأكبر يردد حزينا : ماذا أحدثُ عن صنعاءَ يا أبتي مليحةٌ عاشقاها السلُّ والجربُ أسير في شوارع المليحة صنعاء، عاصمة للثقافة العربية يومئذ. أشعر بخفة وأنا أتغلغل في المدينة القديمة وحدي، بعد أن قمتُ بمنتهى الأمانة بمهمتي الرسمية ضمن جلسات اجتماعات الدورة الرابعة عشرة لمؤتمر الوزراء والمسئولين عن الشئون الثقافية في الوطن العربي، قصد ترسيخ ثقافة التسامح، وبحضور رئيس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. ها أنذي أختلي بنفسي الآن..أتحرر وأنا وسط عالم شعبي مزدحم، جوّ مغاير لطقس الأمسية الشعرية في المسرح ببيت الثقافة، وللسهرة الرسمية ورقصة السيوف في ساحة الهواء الطلق مقابل البيوت ذات الطراز البديع، المبنية بالياجور المصبوغ بالأبيض، وكأنها قطع حلوى أو أكمام من الدانتيل. الحق يقال هنا الهواء غير معلّب. أسير الآن ببطء في شارع شعبي، لا شيء يدلُّ على الثّراء به . يغصُّ بالذاهبين والذاهبات، والرائحين والرائحات. رؤوس الرجال مائلة إلى الخلف يدفعون بصدورهم المزينة بخناجر الأبهة. تلمع عيونُهم اليمنى أو اليسرى فوق الحنك الضاغط على مضغة "القات". أما النساء فينثرن حكاياتِهن بصمت. تبِعتُ رائحةَ الحنّاء وعطر القهوة. توقفتُ عند بائع الهدايا لأختار عقدا من العقيق لزوجة أبي.حتما سيُفرح ذلك والدي!.. مَتاجر مصفوفة كأنها "المدينة الجديدة" بوهران. ألبسة معلقة تتشرب الغبار. ألوان زاهية تشبه ألبستنا القبائلية. كان يكفي أن يعرفَ أحدُهم أني جزائرية حتى تلتفّ حولي القلوبُ. بحثتُ عن أثر لملكة سبأ. وعن سد مأرب. تراكضتْ خيولُ الشعر والخيال. ولم أعد وحدي. ! اتجهتُ نحو أقدم جامع في صنعاء. بُني في السنة السادسة للهجرة على يمين جبل ضين بأمر من رسول الله عليه الصلاة والسلام. .دخلتُ إليه، كان فارغا إلا من شيخ ذي وجهٍ سَمْح. اختليتُ بي كيْ أجِدني، وحين رأيتُني بوضوحٍ خرجتُ. ! لم أعُدْ وحدي.إنهم يرافقونني. لم نعُد غرباء عن بعضنا. إنهم إخوتي في البردوني، يعرفونه حق المعرفة. بعضُهم يحفظ أشعاره وجميعهم يحفظون وُدَّه، ذلك الراقد تحت تراب مدينتهم صنعاء. لم نعد غرباء. نحن إخوة من رحم قصائد البردوني . كنت أعرف أنني تأخرت في العودة إلى الإقامة الرسمية. الأمر الذي سيثير قلق المنظمين. أليس قلق آخر وشُبهة تمرد أن نسير معا بهذا العدد متوجهين نحو إقامة رسمية ؟! في الطريق، كنت أتأمل أصواتهم و مقابض خناجرهم. حدثوني كثيرا عن حبهم للجزائر وشعبها وثورتها. مازال صدري يحمل شكواهم، وتذمرا خفيا كان يصنع صنعاء أخرى غاضبة. عند باب الإقامة افترقنا على مضض، كان موعد سفري في اليوم التالي. - ابقاوا على خير يا إخوتي من دم الِحبْرِ البردوني. ! توزّعَ الوقتُ أعمارَ الناسِ، أما قلوبُنا فمازالت مجتمعةً حول شعر البردوني، ذلك الرّائي الذي رأَى ما لم يرَهُ الإستراتيجيون العالميون : ماذا أحدّثُ عن صنعاءَ يا أبتي مليحةٌ عاشقاها السلُّ والجربُ