معتقل «بوسوي» الاستعماري بمدينة الضاية بولاية سيدي بلعباس الاحتفال بذكرى انتفاضة ال11 ديسمبر 1960 الخالدة، لا يمكنه أن يتم ويكتمل دون العودة إلى مختلف المحطات التاريخية التي مرت بها الثورة التحريرية المظفرة، حيث أن الأحداث والمعارك والاجتماعات والعمليات الفدائية التي قام بها المجاهدون الجزائريون البواسل، صنعت كل هذه الإنجازات التي توجت في الأخير بتحقيق الاستقلال المبارك حيث وكما يؤكد الكثير من الباحثين والأكاديميين، فإنه في التاريخ لا يوجد شيء يحدث بالصدفة بل أن الوقائع والأحداث كلها متسلسلة ومترابطة، وعليه فإننا ننتهز هذه الفرصة للحديث عن مختلف الشخصيات الثورية التي صنعت هذا المجد المسطر بأحرف من ذهب، على غرار الشهيد محمد تيساوي الذي ومثله مثل باقي الجزائريين والجزائريات، قدم أعز ما يملك لتحيا مكة الثوار وكعبة الأحرار حرة مستقلة في كنف السلم والآمان. وبالمناسبة فقد زارنا أمس ابنه أحمد تيساوي بمقر "الجمهورية" وكان لنا معه، حديثا طويلا وشيقا تحدث فيه عن أهم المحطات والأشواط التي قطعها والده في معتقل "بوسوي" الرهيب بسيدي بلعباس، حيث كشف لنا عمي أحمد أنه لا يزال يتذكر جيدا لما زار أباه محمد بداخل هذا المعتقل عام 1957 لمرتين وعمره لم يكن يتجاوز ال15 سنة، حيث راح يروي لنا جانبا وفصلا من تلك الذكريات القاسية، بالقول :« لقد ذاق والدي عذابا شديدا لأنه كان يجمع المال للفدائيين، حيث كنا نقطن آنذاك في شارع "لاباتوار" بالحي الشعبي "القرابة" عندما اقتحم الجيش الفرنسي بيتنا وداسوا بوحشية على جسدي ثم فتشوا المنزل تفتيشا دقيقا ليذهبوا بعدها دون أن يجدوا شيئا، وبعد أيام ألقوا القبض على والدي الذي كان في محله التجاري المخصص لبيع المواد الغذائية بذات الحي، واعتقلوه بتهمة المشاركة ودعم الثوار والفدائيين الجزائريين، حيث كان والدي محمد يجمع المال لفائدة المجاهدين، وقد أشبعوه ضربا ثم أخذوه فيما بعد إلى معتقل "بوسوي" بمنطقة "الضاية". قصتي مع الضابط العسكري وأضاف عمي أحمد وهو يروي هذه الحكاية المؤسفة، أنه قرر رؤية والده الذي اشتاق إليه كثيرا، ليذهب رفقة والدته وعمه لزيارته والوقوف على حالته الصحية، بعد حصوله على رخصة المرور، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث أن أحد الضباط الفرنسيين برتبة رائد لم يسمح له بالدخول، بحجة أن الجنرال الفرنسي ديغول زار أمس المعتقل مصحوبا ب300 من قوات الأمن الخاصة، ليتوسل إليه وعيونه تجهش بالبكاء، علّ وعسى يقبل بالسماح له بزيارة والده الشهيد محمد، موضحا أنه لحسن الحظ كان يتقن اللغة الفرنسية، وكان يرتدي هنداما محترما، الأمر الذي شفع له في الأخير، فقبل الضابط الفرنسي طلب عمي أحمد لملاقاة والده، ونجح في تسليمه قفة تحتوي على بعض المأكولات وبداخلها جريدة ناطقة بالفرنسية، كان قد طلبها منه لتسليمها للمعتقلين حتى يطلعوا على مختلف الأخبار، ليضيف لنا أنه نجح للمرة الثانية في زيارة والده، وقد وقف محدثتنا على مشهد مؤثر وهو يعبر ساحة المعتقل لشخص نصف عار وكان جاثما على ركبتيه ومن حوله 3 جلادين منشغلين بتعذيبه وضربه بالسياط وكان وقتها الجو باردا و شديدا، حيث من شدة الألم كان يصرخ وهو الأمر الذي أثر في كثيرا، وقد دفعني الفضول لأسأل والدي عن هوية هذا الشخص، فقال لي يا بني هذا طبيب جزائري معروف وقدم الكثير من الخدمات للثورة الجزائرية، يدعى الدكتور "أحمد عروة". هروب 30 سجينا وأشار محدثنا في سياق حديثه إلى أن الأجواء في ذلك اليوم كانت مشحونة بسبب هروب 30 زعيما من المعتقلين إلى جهة مجهولة وهو ما أدخل إدارة السجن في حالة طوارئ قصوى، مؤكدا له أن أحد المسجونين كان يقدم لهم في كل سهرة "سكيتشات" وهو يحمل مسدسا من البلاستيك للترفيه عنهم ويتعلق الأمر بحسن الحسني المدعو "بو بقرة"، فضلا عن قيام الكثير من المثقفين والمتعلمين بتحويل أبواب الزنزانات إلى "سبورات" لتعليمهم القراءة والكتابة باللغة العربية، دون علم حراس السجن طبعا، وكشف له الشهيد محمد تيساوي بأنه كان من بين المعتقلين عيسات إيدير مؤسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وكان محكوما عليه بالإعدام، حيث أذاقته السلطات الفرنسية أشد العذاب قبل أن ينقلوه إلى الجزائر العاصمة، ليستشهد البطل تاركا وراءه مسارا حافلا بالنضال والكفاح الطويل، مضيفا محدثنا أن والده تم نقله إلى فيما بعد إلى معتقل بسيدي الشحمي (وهران) حيث أمضى هناك شهرين قبل أن يطلق سراحه ليواصل النضال بمنطقة بني سنوس، وبعد دخول قرار وقف إطلاق النار عاد محمد تيساوي إلى ولاية سيدي بلعباس، حيث حدث اشتباك مسلح هو ورفاقه يوم 8 ماي 1962 مع أفراد من المنظمة السرية، ليسقط شهيدا بحي سيدي أعمر وسنه 47 عاما. وهكذا انتهت قصة هذا الرجل الرمز، الذي قدم للوطن أعز ما يملك لا لشيء سوى لنعيش نحن في عزة وكرامة، ويبقى تسجيل مثل هذه الشهادات فرصة لتدوين وتوثيق بطولات أسلافنا حتى تبقى شاهدة على نضالهم وكفاحهم المرير ضد الاستدمار الفرنسي البغيض.