أشرف الناس بعد الأنبياء والمرسلين، العلماء والدعاة، كما أن الدعوة إلى الله أشرف الأعمال: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}. والدعاة إنما يدعون الناس إلى طريق الله وسبيله وصراطه المستقيم، وخلاصة هذا السبيل والصراط هو ما أنزله الله في كتابه العظيم.. فهم في الحقيقة يدعون الناس إلى كتاب الله وإلى ما أنزله الله وأمر به ودعا إليه فيه.. فخلاصة دعوة الدعاة هي الدعوة إلى القرآن وإلى ما في القرآن؛ فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، وهو الذكر الحكيم، الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلَق على كثرة الرد، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون الاشتغال بهذا القرآن في أول سُلم "أولويات" الداعية، وفي وسطه ومنتهاه، وذلك بأن يقدم حفظه وتلاوته وتفهمه وتدبره على كثير مما أولع به البعض وابتلوا به في هذه السنوات الأخيرة. إن القرآن مقدم على كل ما سواه حتى على طلب الحديث وغيره كما قرر ذلك جماعة من الأئمة، وهذا هو الذي كان عليه عمل السلف الصالح -رضي الله عنهم: أخرج الخطيب في جامعه (1/42) عن يحيى بن يمان -رحمه الله- أنه كان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف، وأول الحديد، فإن قرأه حدَّثه. وكان الأوزاعي – رحمه الله- إذا رأى في مجلسه حدثاً قال: يا غلام قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11]، وإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم".(الجامع لأخلاق الراوي والسامع). فإذا تحقق له حفظه وإتقانه جعل بعض اشتغاله في إقرائه وتعليمه؛ ليدخل بذلك في زمرة الأخيار، فيكون قد جمع بين تعلم القرآن وتعليمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)[البخاري]، وبذلك تكون أوقاته معمورة لأجلِّ الأعمال وأرفعها فلا يستخسر وقتاً يقضيه في ذلك التعلم والتعليم. ..عجائب القراء ومن نظر في أخبار القراء رأى العجب، وقد كان بعضهم يجلس لذلك من بعد صلاة الفجر إلى الظهر، كما في ترجمة مقري دمشق أبي الحسن محمد بن النضر، وغيره كثير كسبيع بن المسلم (ت 508) -رحمهم الله أجمعين-(انظر معرفة القراء الكبار 1/463). وكان هذا ديدنهم بلا فتور أو انقطاع حتى إن الواحد منهم ربما أقرأ ستين سنة، كما هو مسطور في تراجم بعضهم كبكار بن أحمد المقري (ت 353)، ومحمد بن أبي المعالي، حتى لقن الأبناء والأحفاد، فكان يتخرج على يد الواحد منهم المئات -بل أكثر- من حفظة كتاب الله تعالى، كما نجد في ترجمة ركن الدين إلياس (ت 673) حيث ختم عليه أكثر من ألف نفس. (انظر معرفة القراء الكبار). كل ذلك يفعله الداعية قربة إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته ورجاء ما عنده دون تطلع إلى ما في أيدي الناس، فيكون بذلك قد تعجل أجره. جاء في ترجمة محمد بن أبي محمد بن أبي المعالي -الذي أقرأ ستين سنة- أنه كان يُقرئ احتساباً لله تعالى ولا يأخذ من أحد شيئاً، ويأكل من كسب يده (معرفة القراء الكبار). قال الفضيل -رحمه الله-: ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلق -إلى الخليفة فمن دونه – وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه. ..الدعاة وأخلاق القرآن هكذا ينبغي أن تكون علاقة الدعاة بالقرآن، علاقة ملاصقة ومجاورة ومصادقة وملازمة، وينبغي أن يكون صاحب القرآن والداعية إلى الله تعالى مع احتسابه وزهده مدركاً لعظم المسؤولية المنوطة به، من جهة كونه داعية، ومن جهة كونه حاملا لكتاب الله.. فهذا يوجب عليه الانتباه لنفسه ليكون صورة طيبة وقدوة حسنة لحاملي القرآن كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "حامل القرآن حامل راية الإسلام، فلا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو"، وإنما يجعل القرآن ربيع قلبه فيتخلق بأخلاقه، فتكون التقوى صفة راسخة له، والورع حاجزاً بينه وبين كل مرذول من الأقوال والأعمال، فيكون مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، غير مشتغل بما لا يعنيه منقياً قلبه من كل دنس؛ ليكون محلاً صالحاً لفهم القرآن. وبالجملة فإن الداعية إلى الصراط المستقيم إنما يكون خلقه القرآن، فيظهر ذلك في حاله مع نفسه، ومع ربه، ومع إخوانه المؤمنين.