محطات إيمانية (2) قطار الحياة ينطلق من جديد. المسافرون من مستويات وشرائح اجتماعية متباينة، وجهتهم واحدة، إكمال مسيرة الحياة من الولادة إلى نهاية محتومة هي الممات، إلا أن نياتهم مختلفة، منهم من يبحث عن دنيا يصيبها وثروة يجمعها ونزوة يفعلها لا يهمه إن وافق عمله شرع ربه أو هو غارق في الحرام من أخمص قدميه إلى رأسه، ومنهم من يسعى في هذه الدنيا متحريا في حركاته وسكناته إرضاء للرحمن دون أن ينسى نصيبه منها. جلس المسافر على مقعده في القطار وأخذ يقرأ دعاء السفر: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا منقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل). وهو يذكر الله بلسانه ويناجيه بقلبه، جال بنظره من نافذة القطار فمّرت أمام عينيه آيات الله في خلقه، فقال بينه وبين نفسه: سبحان من خلق هذا الجمال وأرسى الأرض ورفع الجبال، وأنبت الزرع من كل لون وأشكال، فكيف لا يؤمن به الملحدون ويكثرون الإنكار والجدال. حقّا إنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. في غمرة سكون المكان وتأمل في صنع الله مبدع الأرض والأكوان لم يدر المسافر إلا والنوم قد غشاه. كان الليل قد أسدل ستاره، وإذ به يسمع صوت الآذان ..الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله .. نداء يأتي من قرون خلت يخترق الزمان والمكان ليريح النفوس الذي أضناها طول السفر وينعش الأبدان. توقف القطار عند محطة جديدة ، نزل المسافر وتوضأ ثم اصطف مع المصلين وصلى صلاة العشاء. تناول بعض الطعام يقيم به صلبه ويسكت به جوعه، ثم خلد إلى النوم مبيتا نية القيام ودعاء رب ينزل في الثلث الأخير من الليل قائلا: هل من سائل فأجيبه، هل من طالب لحاجته فأقضيها له. كان الشيطان هنا كعادته في الغواية منذ أبينا آدم: ما أحلى النوم ودفء الفراش، نم ولا تستيقظ، لكن المسافر استعاذ منه ونهض واستقام، وتوضأ وصلى ركعات والناس نيام، رافعا يديه إلى السماء متضرعا أن يرزقه من فضله ويقوي إيمانه ويثبته على الدوام. بعد دقائق صدح صوت آذان الفجر معلنا عن يوم جديد، ومحطة أخرى من محطات الإيمان. أ-رشيد عبد العزيز