المسرح من أرقى الفنون وأكثرها تعبيرا عن دواخل الإنسان وخارجه، وكذا معاملاته وسلوكاته وتجربته، فهو الواقع الممكن إحضاره من الماضي، وهو المستقبل الذي يمكن تصوره، بل والعيش فيه، بل هو الإنسان بكل ما فيه وله، استضافت "الجاحظية" نهاية الأسبوع الفارط كمال أدركيشي لقراءة نص مسرحي تحت عنوان "جلد الكلام". اللغة تقوم بدور كبير لإيصال الفكرة وأيضا لإضفاء الجمل الفنية الجميلة والألفاظ التي تتناسب والنص الدرامي، أما إذا كانت اللغة هي محاولة نقل الواقع بكل تشوهاته وندوباته الاجتماعية وخدوشه اللفظية، فإنها تضحى مجرد واقع منزوع من المادة الفنية ويتحول إلى خليط وتضاربات، بل وهذيان لا يمكن القبض فيه على الفكرة بتعريفها الفني الجمالي. النص عنوانه "جَلَد الكلام"، والحقيقة هي كذلك، لأنه تعذيب معتمد يقيم حدود الجلد على الكلمات بكل أنواع السياط، كلام "دراج" حاول صاحب النص فيه الاتكاء على السجعات لعله يدخل من خلالها فنيات وجمالايات، إلا أنها جاءت مبتذلة محشورة وناشزة غير منسجمة فيما بينها، ورغم محاولة كمال ترميم النص وبنائه بناء صوتيا يعطيه بعده التراجيدي، إلا أنه رغم المجهود المبذول والقوة الصوتية التي ضخها عليه، لم يضف النص إلى الحدث أي شيء "حسان .. يا حسان... حل أنا كمال.. وشبيك.. معلابالكش.. اشحال الساعة.. موح راح.. خلاني.. الله يرحمه علاش راح؟". ويستمر النص "الموحي" في وضعه رغم محاولته إحالتنا على الرمز والسياسة "الساسي" السياسة سوسة، الساسي الوسواسي، وغيرها من الألفاظ التي لم تجد النص نفعا ولم تمده بالطاقة الفنية، إلا تلك الكلمات الشارعية التي تتردد في الشواع والأزقة "يما،. أما" الحرقة، البحر، الحقرة، كلمات استهلكت ولم يستطع صاحب النص إدخالها في الموضوع إدخالا فنيا، ولم يعالج الأسباب الحقيقة التي تدفع الشباب إلى الموت ومغادرة البلاد، هل هي فعلا البطالة؟ هل من الموضوعية أن يشتغل الشباب في الدولة الغربية في تنظيف الشوارع والأزقة وربما حظائر الخنازير، بل ويعمل أيضا في المواقع الخطرة الأعمال الشاقة كالبناء والمزراع لقطف المحاصيل الزراعية، وغيرها من الاعمال التي يترفع أن يشتغل بها في موطنه الأصلي. إن الموضوع ليس مجرد نقل واقع كما هو دون محاولة فهم هذا الواقع، ولا ترديد لكلمات متداولة وأحكام مسبوقة وأسباب تكاد تكون متداولة بين الناس.. الناس بدون استثناء، المسرح بكل أنواعه ليس مجرد تهريج، بل هو أهداف وبناء مجتمع يدرك ما يقوم به، ويراجع ما يقوم به، ومن خلاله يصحح ما يمكن تصحيحه، ويضيف ما يمكن إضافته، وينقد ويقيم ما يمكن نقده وتقييمه. النص الذي قرآه كمال أدركيشي والذي كاتن مخلوطا بلغات متعددة، دراجة عربية، لغة مليارية راقية والأداء بها كان كما الأحلام، ثم صرخات وكلمات متكررة والخوض في سايسة زنقوية لا تفقه من السياسية إلا أسماء تتقاذفها الأفواه وتشربها الاسماع هنا وهناك، أما المسرح كفن والنص كنص درامي فني مسرحي، فهو الغائب وغير الموجود.