اليوم العالمي لحرية الصحافة: عميد جامع الجزائر يدعو للتصدي للتضليل الإعلامي الغربي    الرئيس تبون.. جهود كبيرة في تعزيز التعاون الاقتصادي الإفريقي    الجزائر الجديدة.. حركية كبيرة وتدابير تشجيعية    ثلاث مجازر صهيونية جديدة ضد الفلسطينيّين    ألقاها نيابة عنه العرباوي أثناء انعقاد القمة 15 لمنظمة التعاون الإسلامي بغامبيا: الرئيس تبون: ما يحدث في فلسطين المحتلة ضربة لشرعية القانون الدولي    المصادقة بالإجماع على التقريرين الأدبي والمالي    الصحافة الوطنية تلعب دورا كبيرا في المشهد الإعلامي    تصنيف "فنّ القول ورقصة الصفّ" ضمن التراث العالمي    وزارة التربية:للمتمدرسين والمترشحين الأحرار: تذكير بموعد سحب استدعاءات البيام والبكالوريا    وقفة تضامنية مع إعلاميين صحراويين        رؤساء الأندية يطالبون بتعديل متوازن    حقيقةX دقيقة: بعد سنوات الظل..    وسام مالي لمصطفى براف    جواد صيّود يواصل التألّق قارياً    تجنُّد لحماية الغابات    الإطاحة بعصابات تتاجر بالمخدرات والمؤثّرات العقلية    انتشال جثة طفلة بالمغيّر    مشاركة 183 عارضا لمختلف القطاعات الاقتصادية الجزائرية    بوغالي: الإعلام العالمي في الحضيض    السيد تاقجوت يبرز الانجازات الاقتصادية والاجتماعية المحققة خلال السنوات الأخيرة    رئيس الجمهورية يدعو إلى إصلاح منظمة التعاون الإسلامي    اقترح عليه زيارة فجائية: برلماني يعري فضائح الصحة بقسنطينة أمام وزير القطاع    وزارة البريد والمواصلات: إطلاق حملة وطنية للتوعية بمخاطر استعمال الوسائط الاجتماعية    رخروخ: الجزائر مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لتعزيز حضورها الاقتصادي اقليميا وقاريا    السيدة كريكو تبرز "المكانة المرموقة" التي تحظى بها المرأة ضمن المشروع المؤسساتي لرئيس الجمهورية    الدرك الوطني يحذر من ظاهرة النصب والاحتيال عبر الانترنت    أم البواقي : افتتاح التصفيات الجهوية لمسرح الطفل بمشاركة 11 ولاية    الأمين العام لحركة النهضة من برج بوعريريج: لا بديل عن الانتخابات الشفافة والنزيهة في اختبار من يقود البلاد    الرئاسيات المقبلة هي عنوان الشرعية الشعبية للمؤسسات وضمان للاستقرار المؤسساتي    جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تنظم لقاء بمناسبة الذكرى ال93 لتأسيسها    منشآت رياضية : بلعريبي يتفقد أشغال مشروع ملعب الدويرة    المنظمة الوطنية للصحفيين الجزائريين تدعو إلى الاستمرار في النضال في وجه التحديات    مشاركة قرابة 20 ولاية في المعرض الوطني للفنون والثقافات الشعبية بعين الدفلى    الشريعة الإسلامية كانت سباقة أتاحت حرية التعبير    الجزائر تستقبل دفعة ثانية من الأطفال الفلسطينيين    رحيل سفيرة موسيقى الديوان حسنة البشارية    حان الوقت لرفع الظلم التاريخي عن الشعب الفلسطيني    تجسيد مشروع ملموس للتنقيب وتحويل خامات الليثيوم    برنامج مشترك بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    "المحاربون" يستقبلون غينيا يوم 6 جوان ببراقي    صحفيو غزة.. مئات الشهداء والجرحى والمعتقلين في سبيل القضية    توقيع 3 اتفاقيات بالصالون الدولي "لوجيستيكال"    دبلوماسيون ومتعاملون أجانب: رغبة في تطوير المبادلات    أكثر لاعب أنانيٍّ رأيته في حياتي!    فوز الدراج نهاري محمد الأمين من مجمع "مادار"    إطلاق مسابقة أحسن صورة فوتوغرافية    دعوة لصيانة الذاكرة من التزييف والتشويه    وضع شاطئ "الكثبان" على طول 7 كلم تحت تصرف المصطافين    اقتناء 4 شاحنات ضاغطة لجمع النفايات    والي سكيكدة تُمهل رؤساء الدوائر إلى 15 ماي    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    التوقيع على برنامج عمل مشترك لسنة 2024-2025 بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة يوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء»
نشر في الحياة العربية يوم 20 - 12 - 2023

على الرغم من الضباب الداكن والمخيف الذي يلف المنطقة، ووسط آلة تدميرية غير مسبوقة، إجرامية بامتياز، وبعد عشرين سنة قضاها داخل دهاليز سجون الاحتلال، مشفوعة بثلاث مؤبدات، يخرج الروائي والشاعر الفلسطيني الأسير باسم خندقجي من هذه الظلمة القاسية محلقاً بجناحي اللغة حيث لا قهر ولا حيطان، فيمنحنا نصاً جديداً «قناع بلون السماء» ليرتقي بنا نحو أسئلة وجودية تشغلنا نحن «الأحرار» من قيود الأسر.
تأتي رواية « قناع بلون السماء» المرشحة في القائمة الطويلة لجائزة البوكر، كتتمة لنصوصه السابقة: مسك الكفاية، خسوف بدر الدين، وأنفاس امرأة مخذولة، وعزلة النرجس، إضافة إلى نص «قناع بلون السماء» الذي يبدو أنه سيشكل الجزء الأول من ثلاثية قادمة.
لم يخرج باسم في هذا النص عن مشروعه الهوياتي والتاريخي. نصوصه لا تتوقف عند شكل واحد للكتابة وإن كان رابطها التاريخ وأسئلة الحاضر والاحتلال. تبحث في مجملها في «المأساة» الفلسطينية والعربية وفي رهانات هوية قلقة ومقاومة، تتعرض للهدم المبرمج بالعنف والبناء من جديد.
لا يوجد مقدس تاريخي في روايات باسم خندقجي، كل شيء قابل للتأمل والتحليل والنقد، بما في ذلك اتفاقيات منحت السلطة للبعض ووضعت البعض الآخر المقاوم في الهامش. وهو ما منح رواياته عطراً خاصاً بها، هو مزيج من رائحة الماضي الذي أغلق عليه بإحكام، ورائحة حاضر دموي. هذا الاتساع في الرؤية أهّل الكتاب للخروج من تيمة السيرة الذاتية التي كثيراً ما «سَجَنت» في دوائرها الضيقة الكتاب المعتقلين.
وعلى الرغم من أهمية «أدب السجون» فإنه كثيراً ما أفرغ الرواية من بنيتها الفنية، وحولها إلى «مذكرات» و»وجدانيات» و»حالات» إنسانية لها الحق في أن تكون في كتاب سيري أو كراسات ويوميات الأسير ومعاناته، لكن في الرواية الأمر يتغير كلياً، إذ المطلوب أولاً وجود رواية فنية قبل أي شيء آخر، وهو الرهان الذي اختاره باسم خندقجي لمسيرته الروائية.
اختار هذه المرة شكل المراسلات التي تشكل في جوهرها عنواناً ونوعاً، إذ تتسم عادة بالحميمية والسرية والعلاقة بين اثنين فقط. لكن المراسلات في هذه الرواية تتسع لتفيض على خصوصية الجنس، فتحولت إلى لحظات سجالية وفكرية حول قضايا حساسة. نور مهدي الشهدي، بطل هذه الرواية عاش صعوبات المخيم ومآسيه. ثلاثون سنة من العمر لم تكن إلا لحظات قاسية لتجريب الحياة والصبر على قسوتها، فقد خسر والدته وحنانها التي تُوفيت في اللحظة التي منحته فيها الحياة. لا يدري كيف درس وتعلم والتحق بالمعهد العالي للآثار الإسلاميّة، تلك اللحظة التي بنت عليها الرواية لاحقاً مشروعاً بكامله يسمه لنور باكتشاف خفايا الأرض الفلسطينية التي تسرق كل يوم شبراً شبراً. صديقه مراد في الجهة الأخرى في المعتقل، في السجن الصغير، يتقاسم معه الصغيرة والكبيرة في مأساة الحياة في ظل الاحتلال. أم مراد، الحاجة فاطمة الموسى، هي مساحة الدفء والأمومة المسروقة، إذ لا يسمح لها برؤية ابنها مراد إلا 45 دقيقة في شهر كله غياب. اللمسة والقبلة والتنهيدة والضمة تتم كلها من وراء زجاج خشن، لا روح فيه. كل شيء يمر عبر ذاكرة حية لا تموت، يتذكر جيداً كيف اختطف مراد من أمامه. كانا يمشيان في سوق المخيم، في شهر رمضان حيث استجاب نور لدعوة صديقه للإفطار في بيته، قبل أن تواجههما دورية جيش الاحتلال فتختطف مراد من أمامه. لكن المعتقل خلق علاقة جديدة بينهما أكثر حميمية: التراسل. فيخبر نور صديقه مراد عن احتمال كتابته رواية بطلتها طالبة جامعيّة أو صحافيّة أو باحثة، أو شخصيّة دينية تاريخية: مريم المجدليّة التي أهينت في حياتها من مجتمع ظالم، فقد ظلمها المؤرّخون ظلماً شديداً وسدنة الأخلاق. من هنا تتخذ الرواية مسارين يسيران بشكل متواز، ينهمك المسار الأول في المراسلات الخاصة والاجتماعية، بينما يتوقف الثاني عند حدود المادة التاريخية الخاصة بمريم المجدلية.
لهذا، كان عليه أن يستثمر تخصصه في الآثار بحثاً عن حقيقة مريم المجدلية. فقد كان أصحابه ينادونه سكناحي (الأشكناز) لأن شكله يقارب هذه العينة من اليهود الذين وفدوا من أوروبا نحو فلسطين. نور يتقن العبرية والإنجليزية جيداً.
كل رسائل نور لمراد تشكّل فصولاً دراميّة إنسانيّة احتوت مأساة المخيم (السجن الكبير) ومعاناة الأسر (السجن الصغير). وعلى الرغم من ذلك، هناك حالة من الإنسانية والسكينة في الرواية قريبة من الحكمة الصوفية؛ لا ضغينة، ولا أحقاد سوى الرغبة في المعرفة العميقة لما كان يدور من حوله. لهذا فهو يزيل الغطاء عن العادي الذي ليس عادياً، متفادياً السقوط في العنصرية السهلة، وكأن باسم يدعونا لقراءة التاريخ بعين أخرى، عين تاريخية وليس سياسية تسقط في السهولة والإقصاء. يلتحق في الأخير بفرقة البحث في الآثار متنكراً بصفة يهودي أشكنازي: أور شبيرا. وقد ضمت البعثة بالإضافة إلى باحثي آثار أجانب، نور بقناع أور شبيرا، وسماء إسماعيل الفلسطينية التي تحمل جوازاً إسرائيلياً، ولا تطيق عنصرية أيالا الإسرائيليّة، ويدخل نور من جهته في محاورات طويلة أمام المرآة، مع أور، غريمه أو قناعه الذي سرق منه أرضه وحياته، وكان من وراء النكبة التي عاشتها أجيال بكاملها. «أنا وُلدْتُ من رحم صهيونيّتك ومن النكبة التي ألحقتها بي. لذا، أنا جزءٌ منك وأنتَ جزءٌ منّي» (من النص). طبيعي أن يكرها بعضهما البعض؛ العلاقة غير متكافئة، بين ظالم يملك كل شيء، ومظلوم لا يملك شيئاً بعد أن سُرقت منه كل سبل الحياة، بما في ذلك أرضه.
وكان على نور، من أجل تحقيق ما أراده، أن يرتحل باتجاه الأمكنة التي توفر له مادة الكتابة. رواية استقصائية، لكنها كلها في المستوطنات، وهذا ما يجبره على الدخول في لعبة القناع، أي التحول إلى يهودي إشكنازي، مشبع بالفكر الصهيوني. من طفل المخيمات ووطن مسروق، إلى عالم آثار ينبش في تاريخ سرق منه، وجغرافيا سجينة، وهوية تتمزق وتتشكل باستمرار بحسب عنف اللحظة التاريخية التي تجيز للإسرائيلي ما لا تجيزه للفلسطيني، بين هولوكست قديم أصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية، وهولوكوست حديث يتشكل كل يوم أكثر، يعمل على حرق كل شيء يحيل إلى فلسطين. هوية تلبس قناع قاتلها بعد أن دخل نور إلى سوق الخردوات ويشتري معطفاً جلديّاً يجد في جيبه الداخليّ حظاً غير مرتقب، بطاقة هويّة زرقاء أشكنازيّة وقلادة نجمة داود، وهذا ما يمكّنه من الذهاب بعيداً في مغامرته. ينغمس نور بالبحث عن القطع الفخّاريّة وعن مريم المجدليّة في محاولة لكشف الأسرار الخبيئة.
لا تغرق الرواية في الماضي البعيد، إذ يظل الحاضر أحد رهاناتها. فلا تخلو من نقد لاذع لاتفاقيات أوسلو أو ما تسميه السلام المختل، حيث تخلى رفاق النضال والانتفاضة عن والده بعد 25 سنة سجناً غيرت قلبه وتاريخه وذاكرته وجسده النحيف. رفاق الأمس سرقتهم المصالح الصغيرة وتركوا الوطن معلقاً في الفراغ واهتموا بالمسؤوليات والمصالح، وترك والده وراء عربة الشاي والقهوة. تلك مأساة الثورات عندما تأكل ميراثها وتاريخها المضيء.
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.