بعد أن استتبّ له الأمر في العراق وساد الأمن بين الناس من جديد وخاف بطشه الصغير والكبير؛ عمد إلى تجربة مثيرة جدا حين جاء بعقد ثمين تبلغ قيمته ثلاثة آلاف دينار، وهي ثروة كبيرة، وأمر بإلقائه على قارعة الطريق وفي موضع يراه الغادي والرائح.. وبعد ثلاثة أيام متوالية كانت الإثارة والمفاجأة، وجاءت النتائج إيجابية مائة في المائة. إنه الحجّاج بن يوسف الثقفي المتُوفّى قبل نهاية القرن الأول الهجري بخمس سنوات، والذي ولاّه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على العراق حيث الفتن والعصيان وهيبة الدولة المستباحة وسلامتها المهددة؛ فقرّر هذا الوالي إعمال القسوة وسياسة القبضة القوية كما ظهر من أول خطبه التي اشتهرت في الأدب العربي، فالرجل إلى جانب العسكرية والسياسة كان ضليعا في لغة العرب حتى قيل إنه من بين أربعة لم يلحنوا في جدّ أو هزل وهم: الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج وابن القرية. هذا الرجل، الذي يمدحه البعض بعدد من الفعال، أعاد الأمن إلى ربوع العراق لكنّه أراق دماءً كثيرة وقتل بمجرّد الشبهة ونكّل بعلماء كبار.. خاف الناس على رؤوسهم لأن سيف الحجاج كان سريعا إلى كل رأس يقترب منه الشكّ مهما بدا يسيرا.. وهكذا كانت المفاجأة حيث ظل ذلك العقد الثمين في مكانه ثلاثة أيام متوالية دون أن يجرؤ أحد على أخذه والتعريف به، فضلا عن الاستحواذ عليه. لا أحبّ الإشادة بالحجّاج على الإطلاق، رغم مآثره التي يذكرها تاريخ الدولة الأموية، ومنها تعريبه لديوان العراق الذي كان يُكتب بالفارسية، إضافة إلى تأمينه لحدود الدولة وتثبيت كيانها.. والسبب أنه أنموذج للاستبداد العربي المتقدم في الزمن، أي منذ القرن الأول الهجري.. والظلم والقتل بالريبة لا مبرّر له، وهكذا أتقزّز دائما عند سماع أيّ مدح أو إشادة برموز الاستبداد القديم أو المعاصر بحجة أنهم الأصلح لهذا الشعب أو ذاك!.. وأن بعض الشعوب لا تستقيم إلا بالعنف والقسوة!.. وعليه فإن الاستدلال من قصة الحجاج يقتصر على جانب واحد هو استشعار العقوبة وخشية سيف أو سوط السلطان، أو سلطة القانون إذا تحدّثنا بلغة ومصطلحات هذا العصر. إنّ الخوف من العقاب واستشعار رقابة القانون سوف يضع حدّا لمرضى النفوس الذين لا يردعهم وازع من دين أو خلق أو ضمير.. وسوف تنكمش جيوبهم الفضفاضة التي تعودت على عدم الشعور بالامتلاء، مهما سرقت ونهبت من المال العام. في هذا السياق يمكن فهم مجريات ما يحدث هذه الأيام في مصر، أرض الكنانة.. حيث ذلك الجدل الواسع حول القضاء وضرورة إصلاحه من خلال قانون جديد تنادي به الأحزاب التي تحوز أغلبية في السلطتين التنفيذية والتشريعية. لا أريد الخوض في التفاصيل، وتلك التّهم المتبادلة بين المدافعين عن القضاء المصري بشكله الحالي، والمطالبين بتعديل القانون.. فالطرف الأول يتهم الثاني بالسعي نحو صبغ السلطة القضائية بلون حزبي معين، ويرد الطرف الثاني بأن خصومه يناصرون ثورة مضادّة تتمثل في وجوه وجيوب معروفة في القضاء المصري. والجدل في مثل هذه القضايا المصيرية لابد أن يكون كبيرا ومثيرا في أي بلد غير مصر، فكيف بمصر وحجم التباينات والتجاذبات التي ظهرت بعد الثورة، وألوان وأشكال وسائل الإعلام التي تتنافس بحدّة لتوجيه الرأي العام.. لكنّ سؤالا واحدا سمعته أكثر من مرة رجّح الكفة بالنسبة لي وجعلني أميل إلى الطرف الذي يدعو إلى إصلاح القضاء، وهذا السؤال بسيط للغاية وهو: إذا كان الجميع، تقريبا، قد اتفق على فساد الحكم السابق، وأنه عاث فسادا في الحياة السياسية والاجتماعية والإدارية، ولمدة ثلاثين عاما.. فهل يعقل أن يترك القضاء المصري على حاله؟.. أي أن يحيّيه من بعيد ويقول له: أنت في أمان وسلام. ولو فرضنا أن هذا الأمر مستساغ، وأن ذلك النظام كان بريئا من تهمة إفساد القضاء براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب؛ فأين كان هذا القضاء من جولات وصولات المفسدين، وكيف ظلوا يعربدون طوال ثلاثة عقود؟.. وهل يعقل أن تترك عصابات الفساد القضاء على حاله ولا تحاول شراء ذمم عدد من رموزه وفاعليه.. ولو حدث العكس سيكون الأمرُ لغزا محيّرا أو مفارقة عجيبة أو معجزة.. أيْ حياة سياسية ومالية فاسدة، ثم قضاء نظيف لم تشبه شائبة طوال هذه السنوات الطويلة. طبيعيٌ أن يعمل الفاسدون على تلويث القضاء، فيسنّوا قوانين ويتركوا بها ثغرات ينفذون منها، وسوف يورّطوا قضاة لكي لا يتكلموا، وسوف يُرهبوا آخرين بأكثر من وسيلة ووسيلة، ويدفعوا القسم الأكبر إلى الحياد السلبي حتى تتحول صورة العدل عندهم إلى حكم على مجرم سرق نعجة أو بقرة، أما الذي ينهب أموال الدولة فذاك (أفندي) محترم، ورجل طيب القلب يقيم الموائد والخيام الرمضانية، ويسدي المعروف إلى مستحقّيه، ويرسل الناس إلى الحج والعمرة على نفقته الخاصة!.. إن القضاء المصري في حاجة إلى إصلاح حقيقي حتى يرتدع المجرمون والفاسدون، ويدركوا أنهم ليسوا في مأمن إلى الأبد، وأن عدالة الأرض قريبة منهم، بعد أن تناسوا عدالة السماء.. وإذا كان الأمر قد وصل إلى ذلك الحدّ المثير هناك على ضفاف النيل؛ فهو كذلك في الجزائر، بشكل أو بآخر.. ومن يرى أن هذا الكلام مجافيا للحقيقة، فما عليه سوى تفسير ما يحدث من توالي وتزايد الفضائح المالية، وانتقالها من مستوى الاختلاسات العادية إلى جرائم رهيبة في حق المال العام، قد تصل إلى درجة الخيانة العظمى والتآمر على الوطن.. فهل يخاف أهل الفساد في بلادنا من القضاء؟..