"بن سعيدان "عود روحو مع احتلال فرنسا للجزائر بدأت القوات الفرنسية بإرسال دوريات استطلاع لجلّ مناطق الجزائر، ومن تلك المناطق التي جابتها تلك الدوريات كانت منطقة أولاد نائل وأحوازها، والغريب أنّ تلك الدوريات كانت تمشي وفق مخطّطات للمسير تضمن لها معرفة الطرق المؤدية للقرى والمداشر بكلّ دقة، بل ومعرفة أماكن أخرى لا يعرفها سوى أهل البلد. لا ريب أنّ القوات الفرنسية كانت قد قامت بالاستنجاد بالمرشدين من كلّ قبيلة لتمكينهم من التوغّل في الغابات والجبال والصحاري والقفار، ويبدو أنّ الفرنسيين كانوا يحسنون اختيار المرشد، ومن جملة أولئك كان (بن سعيدان) الذي كان الرجل الذي ساعد الفرنسيين في السيطرة على منطقة أولاد نائل. ولا شك أنّ الفرنسيين كانوا يعرفون قيمة هذا الرجل حتى إنّهم ترجموا لحياته في بعض الكتب والجرائد ومن جملة تلك الجرائد كانت صحيفة (Le monde illustré) وكتاب (الصيد في الجزائر) للجنرال مارجريت. فيا ترى من هو (بن سعيدان) وما هي صفاته؟ أورد الجنرال مارجريت في كتابه (الصيد في الجزائر) رسالته للجنرال (دوما) سنة 1858م وقال فيها إنّ (بن سعيدان) كان من قبيلة أولاد سعد بن سالم وكان أبرز رڨاب (أنظر هنا معنى الرڨاب) في الجنوب وأحسن عدّاء، وقد استعان به في رحلات الصيد، ويبدو أنّ الرجل كان ذا قيمة عنده ما جعله يفرد له في كتابه بعض الصفحات ويضع صورته على إحداها. وذكر الجنرال مارجريت أنّ الأمير عبد القادر سنة 1845م قرّر الاعتماد على أولاد نائل وذلك عن طريق الشريف بلحرش الذي كانت له علاقات مع قبيلة أولاد سي أحمد وأولاد سعد بن سالم. عندها قرّر سي البوهالي قائد قبيلة أولاد سعد بن سالم دعم الأمير عبد القادر الذي كان يعسكر في تيارت، اختار (بن سعيدان) ليرسل معه رسالته، ولم يكن (بن سعيدان) حينها يعرف المنطقة الغربية التي كان متّجها إليها، لكن مع ذلك غادر بعد إبلاغه بالوجهة وبالمسافة بالتقريب. انطلق (بن سعيدان) إلى وجهته وهو يحمل مؤونته من 03 لترات ماء معبّأ في شيبوطة (إناء جلدي) و10 أونصات (حوالي 300 غرام) روينة، وبعد مدّة وصل إلى سيدي بوزيد، فتوقّف للحظات ليتناول الروينة، ثم انطلق مرّة أخرى، ليكمل سيره في الليل مستعينا بالنجوم، وفي اليوم التالي وصل إلى (تادميت) أين كان الأمير عبد القادر يعسكر هناك فسلّم الرسالة له، لكن الأمير عبد القادر ومن معه لم يصدّقوا أنّه استغرق 26 ساعة فقط لقطع 54 موضعا لكن كلامه عن بعض الأحداث ورسالته المؤرّخة رفعت تلك الشكوك. وقد نقل لنا الجنرال مارجريت الحوار الذي دار بين بن سعيدان والأمير عبد القادر حيث قال له الأمير: «أطلب منّي ما يمكن أن أفعله لك، ذلك من دواعي سروري !» فردّ عليه (بن سعيدان): «يا أمير المؤمنين، أنا لا أطلب منك المال، أنت تقاتل من أجل القضية العادلة، والأمر متروك لنا لمساعدتك بكل إمكانياتنا، ولكن أريد بركتك، ادعو الله لنا، لأكافأ بشكل جيّد»، فوضع الأمير عبد القادر يديه عليه وقال: «اللهم ضع بركتك في رجليه، وبمساعدته ستكون حصان نفسك !». ثم ودّعه الأمير بعد أن أعطاه مجموعة رسائل إلى أولاد نايل. وفي سنة 1849م –أي بعد استسلام الأمير عبد القادر- انتقل (بن سعيدان) إلى تقرت هو وبعض أفراد قبيلته لشراء التمر، ثمّ ذكر أنّه منذ سنة 1852م –أي بعد معركة الأغواط- أصبح بن سعيدان مرشدا للقوات الفرنسية، وقال إنّه كان يقطع المسافة بين الجلفةوالأغواط والتي كانت تقدر ب 115 كم في حوالي 12 ساعة إلى 14 ساعة. ويأتي السؤال: لماذا تغيّر حال الدليل (بن سعيدان) من دليل ساعد الأمير عبد القادر في قضيته وهي محاربة الاحتلال الفرنسي، إلى دليل للقوات الفرنسية يساعدها في معرفة الطرق ومضارب القبائل والكشف عن المقاومين؟ يبدو أنّ استسلام الأمير عبد القادر سنة 1847م وسقوط الأغواط وأحوازها سنة 1852م، جعل الكفّة لصالح الفرنسيين، فرضخت جلّ القبائل للمحتل، وهدأت الأوضاع في منطقة أولاد نائل نسبيا، هذا ما جعل (بن سعيدان) يصرف مهاراته في المشي والتعقّب لصالح القوات الفرنسية خاصة إذا ما علمنا أنّ الفرنسيين كانوا يغدقون عليه الأموال، بل إنّ الجنرالات ومنهم الجنرال مارجريت كان يقرّبه إليه كثيرا. وقد نقلت لنا صحيفة (Le monde illustré) سنة 1862م جانبا من حياة (بن سعيدان) الاجتماعية حيث قالت إنّ العدّاء (بن سعيدان) ينتمي إلى قبيلة أولاد سعد بن سالم التي تقع في دائرة الأغواط وأنّ عمره سنة 1862م كان حوالي أربعين سنة -أي إنّه ولد حوالي سنة 1822م- وأنّه كان ضخم البنية ولون وجهه دائما ما كان أسودا بسبب تعرّضه لحرارة شمس افريقيا. تقول الصحيفة إنّ سمعة (بن سعيدان) انتشرت كعدّاء غير عادي في جميع أنحاء الجزائر، حيث جعله ذكاؤه وسرعة سيره مساعدا مفيدا جدّا للجيش الفرنسي. وقد أظهر (بن سعيدان) مهارة في كثير من الأحيان،كاكتشاف المتمردين –على حدّ تعبير الصحيفة- وهم مجموعة من القبائل تمّ كشف النقاب عن تحركاتهم إلى زعيم طابور الاستطلاع الفرنسي، والتي تم إرسالها لمعاقبتهم. ويبدو أنّ العمل الذي كان يقوم به سعيدان كان سببا في الإطاحة ببعض القبائل، ممّا جعله مطلوبا عند أولاد عيسى زمن تمرّدهم، حيث لم تمر قافلة ولم يهرب كمين من أعين بن سعيدان، فساهم في القبض عليهم. وتضيف الصحيفة أنّ المرشد (بن سعيدان) لم يكن يحبّ امتطاء الخيل ويقول لهم «أنا حصان نفسي» ولهذا سمّي ب (عود روحو)، وقد قيل إنّه قطع خلال ثمان وأربعين ساعة المسافة التي تفصل مسعد عن تقرت. وتضيف الصحيفة أنّ بن سعيدان كان يرتدي أحذية فلاتية بنعال الجمال، ويحمل عصاه وراء قفاه وكلتا يديه مثبتتان في كل طرف، وكان يأكل القليل جدّا. وقد حيكت الأساطير حول هذا الرجل فقيل إنّه في يوم من الأيام، وهو يجوب حول واحة مدينة تقرت تم أسره واحتجازه في الصندوق الأكثر صلابة والأفضل غلقًا، فأتاه جنّيٌّ على شكل شابة نائلية، ففضّل هروبه فأرسل له مفتاحًا في جريدة عربية. ويبدو أنّ العمل الذي قام به (بن سعيدان) درّ عليه الكثير من الأموال فها هي الصحيفة تقول إنّ لابن سعيدان الآن قطيعًا كبيرًا من الأغنام والجمال البيضاء، وقالت إنّ هذا الجاسوس العربي تزوّج عدّة مرات لكن تلك الزيجات لم تكن سعيدة. وقد ضبط (بن سعيدان) زوجته ما قبل الأخيرة في محادثة إجرامية مع شقيق أحد القيّاد يومًا ما، فانتقم منها عن طريق قطع أنفها. ومنذ ذلك الحين، حالما يكون (بن سعيدان) مريضًا أو ببساطة متوترًا، يظن نفسه مسمومًا أو تحت تأثير لعنة. ويبدو أنّ الفقرة السابقة توحي إلى وجود قلق مستمر وهاجس متمكّن من قلب (بن سعيدان)، فعمله مع الفرنسيين، ومساعدته لهم في القبض على المقاومين كلّ ذلك جعل منه رجلا مهدّدا في كلّ لحظة بالقتل، فبدأ في حماية نفسه من كل شيء يريبه، حتى من أقرب الناس إليه وهي زوجته، بل يبدو أنّ الشك كان يساوره حتى في مأكله ومشربه، فيا لها من حياة !!