وضعت جبهة التحرير الوطني، «العمل الخارجي» كمنطلق استراتيجي لتفجير ثورة التحرير المجيدة ضد الاستعمار الفرنسي، يقيناً منها بضرورة تدويل القضية الجزائرية وتعبئة الدعم الإقليمي والعالمي، ووعياً منها بأن إسماع صوت الجزائر في المحافل الدولية لا يقل أهمية عن صوت البندقية في جبهات المعارك في الداخل. جمع مفجرو ثورة الفاتح نوفمبر، بين عبقرية الإعداد العسكري وعبقرية العمل السياسي والدبلوماسي، ليتوّج العمل على الجبهتين بالنصر والاستقلال. تدويل القضية الجزائرية ومواكبة التغيرات الإقليمية والدولية، كان من المنطلقات الأساسية التي نص عليها بيان أول نوفمبر، بشكل أكد إلماما وقراءة دقيقة لنخبة الثوريين بموازين القوى في العلاقات الدولية واستيعابهم لها. وورد في البيان: «أما في الأوضاع الخارجية فإن الانفراج الدولي مناسب لتسوية بعض المشاكل الثانوية التي من بينها قضيتنا التي تجد سندها الدبلوماسي، وخاصة من طرف إخواننا العرب والمسلمين». وإلى جانب الأهداف الداخلية، وضع البيان أهدافا خارجية لإعلان الكفاح المسلح ضد فرنسا الاستعمارية على رأسها «تدويل القضية الجزائرية»، «تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي»، و»في إطار ميثاق الأممالمتحدة نؤكد تعاطفنا الفعال تجاه جميع الأمم التي تساند قضيتنا التحريرية». لم تتأخر جبهة التحرير الوطني، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري، في مباشرة العمل على الجبهة الخارجية، وأسندت المهمة لخيرة الثوريين المتشبعين بثقافة سياسية واسعة، بقيادة أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد ومحمد خيضر. وكانت ستة أشهر كافية، لتقتحم الثورة الجزائرية المحافل الدولية من بوابة مؤتمر باندونغ، المنعقد في الفترة ما بين 18 و24 أفريل 1955، بإندونيسيا وحضره 600 مندوب عن 29 دولة، وأعطيت لوفد جبهة التحرير الوطني المشارك صفة عضو «ملاحظ»، بفضل العمل الدبلوماسي الكبير الذي قاموا به في الاجتماعات التحضيرية. وأثمرت الحنكة السياسية للوفد الجزائري بقيادة حسين آيت أحمد ومحمد يزيد إلى جانب الشاذلي المكي والأخضر الإبراهيمي ومحمد الصديق بن يحيى، عن تبني المؤتمر لتوصيات تدين «الاستعمار الفرنسي للجزائر، وتطالب بتمكين الشعب الجزائري من حقه في تقرير المصير». ولأنه اعتبر أول اختراق للثورة الجزائرية في الخارج، فقد رفعت 14 دولة بعد هذا المؤتمر عريضة للأمم المتحدة تطالب فيها بإدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة الأممية العاشرة في سبتمبر 1955، لكن ضغوطا فرنسية حالت دون طرحها للنقاش العام. وفي ظرف سنتين، استطاعت جبهة التحرير الوطني إخراج الكفاح التحرري للشعب الجزائري من الإطار الفرنسي، خاصة على المستوى الآفرو آسيوي، لتعزز نشاطها الدبلوماسي بافتتاح مكاتب خارجية بعدة دول منها اليابان والمملكة العربية السعودية وغيرهما من الدول التي تحولت من التضامن مع الشعب الجزائري إلى الدعم الدبلوماسي والمادي (السلاح والأموال)، واستمرت مرافعات الوفد الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني، في فضح جور وجرائم الاستعمار الفرنسي، وكيف حاول جاهدا طمس الهوية الجزائرية بمحاربة الدين واللغة والإبادة الجماعية، فمن باندونغ إلى بريوني إلى أكرا إلى طنجة وغيرها من العواصم العربية والعالمية، حققت الدبلوماسية التحريرية الانتصار تلو الآخر، مسنودة بالبندقية في جبهات التضحية في الداخل. ونجحت العبقرية السياسية لوفود جبهة التحرير الوطني في الخارج، في إظهار قوة الحجة في كفاح الجزائريين، ولفت انتباه الرأي العام الدولي إلى ما يجري في الجزائر، من خلال تمكين الإعلام العالمي وصناع السينما الوثائقية من نقل الصورة الحقيقية عن بشاعة جرائم الاستعمار والانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان، وأظهرت أيضا مدى استماتة الشعب الجزائري وإصراره على تقرير المصير. استطاعت دبلوماسية الثورة الجزائرية خلال سنوات قليلة، تكوين رصيد معتبر، مكن الوفد المفاوض في اتفاقيات إيفيان من تقديم أداء باهر أمام الحكومة الفرنسية، انتهى بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار وتنظيم استفتاء تقرير المصير ونيل الاستقلال. وأكبر إنجاز حققه مفاوضو الثورة، بسط السيادة الوطنية على كل شبر من التراب الوطني، ورفض كل المساومات بشأن فصل مناطق معينة (الصحراء). ومن دبلوماسية الثورة إلى الدبلوماسية الجزائرية المستقلة، لازالت المبادئ ذاتها تحكم الأداء الخارجي للبلاد، وعلى رأسها احترام سيادة الشعوب وحقها في تقرير المصير، والتضامن مع الشعوب التي لا تزال خاضعة للاستعمار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.