كلاهما كان نجما وكان رمزا، وكلاهما تحولا إلى أسطورة، أعني هنا نلسون مانديلا، وأعني مقابله أحمد فؤاد نجم!. ما العلاقة، وهل من مقارنة، أليس هذا شططا وهرطقة، قائل قد يقول.. كلاهما مناضل وثلاهما ثوري وكلاهما ذاق السجون والمعقتلات، مانديلا لأكثر من ربع قرن دفعة واحدة، وأحمد فؤاد نجم لأكثر من خمسين سنة على دفعات في كل العهود من عبد الناصر إلى مبارك.. أوجه الشبه كثيرة بين الرجلين، وقد يكون نلسون مانديلا لايعرف أحمد فؤاد نجم أو التقى به، لكن الشاعر الثائر دوما تغنى في بعض قصائده بهذا الزعيم الاستثنائي، إنها العلاقة الوجدانية والرحية التي تأتي هكذا تلقائيا، فوق اللغة وفوق العرق وفوق اللون وفوق الدين، علاقة أساسها الكرامة الإنسانية والحرية والانعتاق وتحدي الظلم والقهر والجبروت.. القيم الإنسانية الرفيعة هي دوما تتخطى الحواجز وتخرق الحدود وتتسامى فوق الخصوصيات والمسافات والمساحات الجغرافية، هي دوما فضاءات لنشرها وانتشارها.. المناضل الإنساني الذي هو نلسون مانديلا، كسب قلوب الملايين في العالم حين كان مسجونا وحين كان حرا، وقلبه الكبير وفكره التحرري وعقله المتسامح وبصره الثاقب، رفعه فوق الحقد وهو الذي عانى من الأحقاد، والتمييز العنصري الذي عانى منه وحاربه دون هوادة، وحتى «الأبرتايد» الذي كان عار الإنسانية نسيه الكثير لأن عظمة مانديلا غطته ليصبح مجرد فاصلة في التاريخ ويتحول الرجل إلى رمز من رموز التاريخ وهي قليلة ونادرة.. مانديلا قاد أمة نحو الانعتاق وفوق ذلك علم الإنسانية مثل التسامح والترفع، قاد حركة تحررية وحزبا كان منظما وقائدا ملهما، وهو في هذه الحالة زعيم من الطراز الأول وأيضا الأنقى. أما الشاعر الذي كان منديلا أحد مثله، فقد نفخ في روح أمة ريح التمرد والثورة ورفض الواقع الذي كان يطحن ملايين البسطاء من الناس العاديين في الحارات الفقيرة والشاعر كان دوما نزيلا للسجون والمعقتلات، في أبو زعبل وطرة وفي كل مرة يخرج يعيد التمرد بصلابة أكثر وبعزم أكبر. كما نحفظ نضال منديلا منذ شبابنا وفي كهولتنا وسيبقى معنا حتى شيخوختنا إنه الرمز السائر دوما الحي أبدا وقد يغيبه الموت كشخص وهو قدر كل كائن حي، لكن المثل والمبادئ والقيم التي كان يجسدها ستبقى دوما حية بل تكبر وتتوسع لأن الأساطير، كل الأساطير تزيدها الأيام والسنوات والدهور اشعاعا وخلودا ورسوخا في الذاكرة.. لا أحد يتذكر العنصري فورفورد اليوم، ذلك الذي ارتكبت في عهده أبشع المجازر في ثارب فيل وفي سويتو وبريتوريا وذلك الذي في عهده ألقي بالمناضل في ذلك السجن الرهيب الرطب بتلك الجزيرة وسط الأطلسي قبالة مدينة الكاب.. وحتى دي كليرك الذي أطلق سراح مانديلا لأنه أدرك أن مسيرة التاريخ لا يمكن وقفها لا أحد يتذكرهما الا القليل ولاأحد يتذكر حسني مبارك رغم قرب العهد، ولا السادات ولا نيكسون ولا كيسنجر ولا جيسكار ديستان، أولئك الذين استقبلوا بحفارة في القاهرة والأقصر ورقصت تحت أقدامهم نجوى فؤاد.. لكن أشعار أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام التي قيلت في تلك المناسبات وأنزلتهم منزلتهم في عين الفرد المصري والعربي وكل مناضل ضد الطغيان والقمع والاستعلاء، لاتزال محفوظة في الأذهان ويرددها الملايين في الوطن العربي.. لشاعر إن رفض الواقع فقد جعل منه ملهاة وشعره أصبح وسيظل متنفسا للملايين في الوطن العربي الذين مع الأسف لم يكن فيهم مثل مانديلا الذي وحد أمة من مختلف الأعراق والديانات لتصبح نموذجا في التعايش دون أحقاد أو بفضاء.. للزعيم النموذج مانديلا علاقات وجدانية مع الجزائر بدأت في ستينات القرن الماضي حين اختلط مع جنود جيش التحرير الوطني وتلقى بدء تدريبه العسكري في أحد مراكز جيش التحرير الوطني وهو يقر أن ذلك اللقاء مع الثورة الجزائرية زاده ايمانا ويقينا وتصميما على حتمية انتصار كفاح المؤتمر الوطني الافريقي وهكذا فان الثوار كما الثورات هي عناصر تتكامل مع بعهضا وتتناغم وتتفاعل وجدانيا وماديا. أعتقد أن هناك إرثا مشتركا في المعاناة والصبر والتحدي يجمع مانديلا بالجزائريين، فالرجل الذي سجن في معقتل رهيب في جزيرة معزولة بين الأطلسي والهندي لأكثر من ربع قرن يتساوى مع الآلاف من الجزائريين الذين لم يكتف الاستعمار الفرنسي بنفيهم الى آلاف الكيلومترات في كيان بغويانا الفرنسية جنوب الأطلسي انما ألقى بالمئات منهم في معقتلات معزولة وموحشة وسط مستنقعات المنطقة، معتقلات محاطة بالمياه التي تسبح فيها التماسيح والثعابين وقد لايكون مانديلا عرف أو التقى ببعض من أولئك العائدين بعد عشرات السنين، ولكنه أكيد التقى ببعض من أبنائهم أو أحفادهم. الجزء الأكبر من نضال الرجل الكلمة والموقف والثبات والسجون، والجزء الأكبر من تمرد الشاعر أحمد فؤاد نجم هو أيضا الكلمة والرفض والسجون وهما في هذه الحالة يلتقيان في نفس السبيل وعلى نفس المثل