شدّد الناقد المسرحي الجزائري "إبراهيم نوّال"، الاثنين، أنّ (جزأرة) أعمال الدراماتورج "جان باتيست بوكلان" الشهير ب "موليير"، عرّت ما سماه "سرطان النفاق" الذي يستمرّ في تهديم المجتمع الجزائري على عدة أصعدة. استكمالا لندوة "موليير رائد المسرح الكوميدي على خشبة المسرح العربي"، أوعز "نوّال" أنّ رصيد "موليير" في الخشبات الجزائرية تضمن العديد من الإحالات على ما ينتاب المنظومة الجزائرية الحالية. وتسائل من يوصف ب "المناضل الثقافي": لماذا موليير ظلّ قريبا منا؟ مستخلصا أنّ نصوصه تنطوي على انتقاد عميق لسلم القيم المتهاوية والتخلي عن الأصول، وذاك برز بجلاء في تجربة المخرج "أحمد خوذي" الذي طرح الحالة المولييرية العميقة في جزائر الراهن إثر تجسيده لاقتباس المثقف "محند أويحيى" (موحيا) وشخصية "سي لحلو" (طارطوف). ونبّه: "في تيزي وزو، استغلّ خوذي شاعرية موحيا، وأسبغ جمالية الفكاهة على ما يفخخ جزائرنا من انحطاط أخلاقي وعبث مشوّه، ومع ذلك استهجن الجمهور العرض، مع أنّ مضمونه تناول بجرأة ما يحفل به الشارع يوميا".
5 ألوان أحال "نوّال" على أنّ "موليير" ظلّ يعتبر "إضحاك الناس مغامرة مشروعة"، ومزج من يُعرف ب "رائد الملهاة الراقية"، بين المدرسة اللاتينية الاتباعية القائمة على تكثيف الضحك، والمسرح الإنساني القائم على تهذيب الأخلاق بالفكاهة والتصوير العميق الخصائص. وعبر هذا الربط، أنتج مسرح "موليير" خمسة ألوان من الفكاهة، هي تواليا: فكاهة الايماء والحركة المقلدة، فكاهة الحالة والحادثة بينها الانقلاب وسوء الفهم والانقلاب والصدفة، فكاهة الألفاظ: التحريف وتشويه الكلمات وطريقة الإلقاء على غرار ما برز في البورجوازي النبيل، فكاهة الطباع التي كرّست الرسم الساخر والتصوير المشوّه للشخوص للنبلاء وفسق الحمقى والمنافقين، إضافة إلى فكاهة الأخلاق التي انبنت على تصوير أعماق الشخصية اجتماعيا، وجرى توظيفها في إهانة القيادات العليا والأرستقراطيين المتكبرين والانتهازيين الطمّاعين. وتابع "نوّال": "كانت لموليير قوة الفيلسوف الحكيم ليجعل التهكم والسخرية أكثر وضوحا بقوة الضحك، وعكس جنون الانسان والعمل باستخدام الضحك الأنيق وحسن الجمال كقوة تعليمية أسهمت في تصحيح الأخلاق، وهو ما جذب المثقفين الجزائريين الذين وجدوا ضالتهم في ثيمات قريبة من محيطهم".
حضور جزائري أبرز أستاذ النقد المسرحي بمعهد فنون العرض في "برج الكيفان"، الحضور القوي ل "موليير" على الخشبة الجزائرية عبر اللغتين الشعبية والأمازيغية، ما ترك بصمات واضحة في الحياة المسرحية الجزائرية برزت منذ عشرينيات القرن الماضي عبر "بشتارزي" و"علالو" و"التوري"، إضافة إلى "قسنطيني" الذي لُقّب ب "موليير الجزائري". وعلى وقع أسئلة كثيرة طُرحت ولا تزال حول تموقع "موليير" في أوساط الأنتلجنسيا الجزائرية، ذهب "مصطفى كاتب" إلى أنّ "موليير" هو الأكثر قربا من الشعب الجزائري، بينما أشار دارسون إلى أنّ المثقفين الجزائريين باللغتين هم من أدخلوا المسرح إلى الجزائر بقراءاتهم واقتباساتهم. واشتهر "المسرح المولييري" في الجزائر عبر شخوص: "بوبرمة، سليمان اللك، المشحاح، بوحدبة وسلاّك الواحلين"، فضلا عن الراحل محمد بودية الذي استلهم "بولنوار" عن موليير أيام تواجده في السجن (1957).
كسر الحائط شرح "نوّال" أنّ الضحك عنصر أساس في دراماتورجيا "موليير" المستلهمة من كوميديا الفن (الارتجال وإعادة الكتابة مع الشعراء)، مشددا على أنّ صاحب "البورجوازي النبيل" كان أول من كسر الحائط مع الجمهور وليس "بريشت"، مضيفا: "موليير بنى علاقة مفتوحة وشعبية، وهو ما جعله حاضرا بانتظام على الخشبة الجزائرية". وأوضح خريج مدرسة "كييف"، أنّ مسرح "موليير" ثري بالرمزيات، وأصبح النموذج والمرجع للمقتبس-المعدّل (بمفهوم ميكانيكي) والمحوّل، مستهجنا أنّ الكثير من المخرجين والمقتبسين غيّبوا "موليير" ونسوا الإشارة إلى مصدر عروضهم، هذا ما أورده الناقد "محمد شنيقي" في كتابه الموسوم (المسرح الجزائري والرهانات). وأعاب "نوّال" أيضا قصور اشتغال البعض على "موليير" واستخراج شخصيات جزائرية أفرغت من مضمونها، وهو ما سجّله الراحل "محمد ديب" الذي كان ناقدا حادا للمسرح الجزائري في خمسينيات القرن الماضي.
اللهجة البوزريعية ركّز "نوّال" على أنّ "علالو" استلهم "موليير" ومنحه أبعاد الملحون عبر ما تُعرف ب "لهجة بوزريعة"، وعلى المنوال ذاته نسج مواطنه "بشتارزي"، وهو ما جمعه الباحث "الشريف لذرع" في كتابات عبر جريدة "الجزائر الأحداث".
قوة ذاكرة وانزياحات تجربة لاحظ الأكاديمي المغربي المخضرم "عبد الرحمان بن زيدان" أنّ "موليير" يمثل ذاكرة قوية وانزياحات تجربة شائقة في المسرح المغاربي، وفي تطرقه ل "علاقة موليير بالمسرح العربي"، تسائل الأستاذ بجامعة مكناس هل اقتباس "موليير" قدّم ظاهرة نقدية وأسّس امتلاءً يستحق المقاربة؟ تبعا لما أفرزه ذاك الاقتباس من مداد وجدل، كما تداول استفهامات عديدة عما إذا كان الاقتباس مرحلة؟ أم تقنية مسرحية؟ خصوصا غداة استعمال البعض كلمة استيحاء وما رافقها من جدلية الاستلهام. وذهب الشيخ الشاب إلى أنّ الاقتباس لم يقدم حقيقة، بل كرّر تجارب سابقة فقدت جوهرها مع مرور الزمن، وهذا النوع من التأسيس للمسرح العربي ترك آثارا، وهو ما برز عبر جغرافيا الاقتباس في مصر ثمّ الجزائر. وتوقّف "بن زيدان" إلى تجربة مواطنه الراحل "أحمد الطيب لعلج" الغنية والذي استحق لقب "موليير المغرب"، ورفض الاقتباس والعروض القائمة على موليير، حتى قيل إنّه قدّم موليير ب "الجلباب المغربي". وتوصّل صاحب ال 78 عاما إلى أنّ هناك من وظّف الاستعارة، الاقتباس، التوطين، التبييئ، الترهين والاستنبات، معتبرا أنّ كلا من "لعلج" و"قسنطيني" أداتان للتعرف إلى كيفية انتقال موليير إلى التجربتين المغربية والجزائرية، من حيث أنّ الأمر يتعلق ب "ترجمة أم هدم"، تبعا لوجود عدة ترجمات رديئة والتعامل بالواسطة. وسجّل "بن زيدان" أنّ "لعلج" لم يكن يحافظ على البنية والحكاية والشخصيات ويتجاوز كل ذلك عبر التبييئ، من خلال إقحامه قصائد الملحون وظيفيا. وتابع بشأن شخصية "طارطوف" التي استخدمها "موليير" لتعرية ظاهرة الاتجّار بالدين، أنّ "طارطوف" ظلّ يقدّم في الجزائر ك "عدوّ الله"، بينما في المغرب "ولي الله"، وأجّج ذلك التوجه النقدي لمحاربة الضلال الديني، وهو ما برز في نص "ولي الله" للعلج الذي أنتج صخبا نقديا. وانتقل "لعلج" لاحقا" إلى مرحلة أخرى، فلم يعد "مولييرا" للمغرب بل كان كاتبا يبدع نصوصه، حيث استفاد من "موليير" دون أن يبقى حبيسه، وعبّر عن ذلك: "تعلمت الكتابة والفكاهة من مسرحيات موليير لأنتقل إلى مرحلة أكثر مهارة"، وهو ما برز من خلال عملية تناص مع التراث المغربي، وسلسلة نصوص نثرية حوّلت إلى الدارجة المغربية جرى توشيتها بمجموعة حكم وأمثال مستمدة من التراث المغربي، ما جعل التعامل مع "طارطوف" يتكئ على المرجعية والثقافة الشعبية المغربية.